الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
قال : " وقد روينا عن زيد بن ثابت أن التأليف كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروينا عنه أن الجمع في المصحف كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه والنسخ في المصاحف في زمن عثمان ، وكان ما يجمعون وينسخون معلوما لهم بما كان مثبتا في صدور الرجال ، وذلك كله بمشورة من حضره من الصحابة ، وارتضاه علي بن أبي طالب ، وحمد أثره فيه " .

[ ص: 330 ] وذكر غيره أن الذي استبد به عثمان جمع الناس على قراءة محصورة ، والمنع من غير ذلك ، قال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : " لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين ; وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ، ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد " . انتهى .

وقد روى البخاري في " صحيحه " عن أنس : " أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، وقال لعثمان : أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى . فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها إليه ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ; فإنما نزل بلسانهم . ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل في كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق " .

وفي هذه إثبات ظاهر أن الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن المنزل من غير زيادة ولا نقص ، والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث أنه كان مفرقا في العسب واللخاف وصدور الرجال ، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته ، فجمعوه وكتبوه كما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن قدموا شيئا أو أخروا ، وهذا الترتيب كان منه - صلى الله عليه وسلم - بتوقيف لهم على ذلك ، وأن هذه الآية عقب تلك الآية ، فثبت أن سعي الصحابة في جمعه في موضع واحد لا في ترتيب ، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي هو في مصاحفنا الآن ، أنزله الله جملة واحدة إلى سماء الدنيا ; كما قال الله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ ص: 331 ] ( البقرة : 185 ) ، وقال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر : 1 ) ، ثم كان ينزل مفرقا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة حياته عند الحاجة ، كما قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( الإسراء : 106 ) ، فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة ، وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة ، ورحمة من الله على عباده ، وتسهيلا وتحقيقا لوعده بحفظه ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر : 9 ) وزال بذلك الاختلاف ، واتفقت الكلمة .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة ; كانوا يقرءون القراءة العامة ، وهي القراءة التي قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه ، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة وكان يقرئ الناس بها حتى مات ، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه ، وولاه عثمان كتبة المصحف .

وقال أبو الحسين بن فارس في " المسائل الخمس " : " جمع القرآن على ضربين : أحدهما تأليف السور ، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ، فهذا الضرب هو الذي تولته الصحابة ، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الحاكم في " المستدرك " وقد روي حديث عبد الرحمن بن شماس عن زيد بن ثابت قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع . . . الحديث ، قال : وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جمع بعضه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم [ ص: 332 ] جمع بحضرة الصديق ، والجمع الثالث - وهو ترتيب السور - كان في خلافة عثمان .

وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب " فهم السنن " : " كتابة القرآن ليست محدثة ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بكتابته ، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب ، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء " .

فإن قيل : كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال ؟ قيل : لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف ، وقد شاهدوا تلاوته من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة ، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا ، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه .

فإن قيل : كيف لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ؟ قيل : لأن الله تعالى كان قد أمنه من النسيان بقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ( الأعلى : 6 و 7 ) أن يرفع حكمه بالنسخ ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن ، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك .

وفي قول زيد بن ثابت : " فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال " ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن من قال إنه جمع القرآن أبي بن كعب وزيد ليس بمحفوظ ، وليس الأمر على ما أوهم ; وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ; ليشترك الجميع في علم ما جمع ، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء ، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف ، ولا يشكوا في أنه جمع عن ملأ منهم .

فأما قوله : " وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت ، ولم أجدها مع غيره " يعني [ ص: 333 ] ممن كانوا في طبقة خزيمة لم يجمع القرآن .

وأما أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ; فبغير شك جمعوا القرآن ، والدلائل عليه متظاهرة ، قال : ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذا لم يمكن ضبطها كما ضبط القرآن ، قال : ومن الدليل على ذلك أن تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إماما ، ولم تفارق الصديق في حياته ، ولا عمر أيامه ، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها ، ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة وقع الاختيار عليها في أيام عثمان ; فأخذ ذلك الإمام ، ونسخ في المصاحف التي بعث بها إلى الكوفة ، وكان الناس متروكين على قراءة ما يحفظون من قراءتهم المختلفة حتى خيف الفساد ، فجمعوا على القراءة التي نحن عليها . قال : والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان - رضي الله عنه - وليس كذلك ; إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن ، وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن ، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق ; روي عن علي أنه قال : " رحم الله أبا بكر الصديق ; هو أول من جمع بين اللوحين ، ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان ; لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان ، ولقد وفق لأمر عظيم ، ورفع الاختلاف ، وجمع الكلمة ، وأراح الأمة " .

" وأما تعلق الروافض بأن عثمان أحرق المصاحف ; فإنه جهل منهم وعمى ; فإن هذا من فضائله وعلمه ; فإنه أصلح ولم الشعث ، وكان ذلك واجبا عليه ، ولو تركه لعصى ; لما فيه من التضييع ، وحاشاه من ذلك . وقولهم : إنه سبق إلى ذلك ، ممنوع ; لما بيناه أنه كتب في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقاع والأكتاف ، وأنه في زمن الصديق جمعه في حرف واحد " .

[ ص: 334 ] قال : وأما قولهم : إنه أحرق المصاحف ، فإنه غير ثابت ، ولو ثبت لوجب حمله على أنه أحرق مصاحف قد أودعت ما لا يحل قراءته .

وفي الجملة : إنه إمام عدل غير معاند ولا طاعن في التنزيل ، ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه ، ولهذا لم ينكر عليه أحد ذلك ، بل رضوه وعدوه من مناقبه ، حتى قال علي : " لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل " . انتهى ملخصا .

التالي السابق


الخدمات العلمية