الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون

[ ص: 72 ] إذا جرينا على ظاهر التفاسير كان قوله : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا الآية استئنافا ابتدائيا ، عاد به الخطاب إلى سائر الناس الذين خوطبوا في أول السورة بقوله اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم الآيات وهم أمة الدعوة ، لأن الغرض من السورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي ، وكان قوله : ولقد خلقناكم ثم صورناكم استطرادا بذكر منه عليهم وهم يكفرون به كما تقدم عند قوله تعالى : ولقد خلقناكم فخاطبت هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة في السورة ، فهذه الآية كالمقدمة للغرض الذي يأتي في قوله : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ووقوعها في أثناء آيات التحذير من كيد الشيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي .

ويجوز أن يكون قوله : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا وما أشبهه مما افتتح بقوله : يا بني آدم أربع مرات ، من جملة المقول المحكي بقوله : قال فيها تحيون فيكون مما خاطب الله بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي ، ولو بالإلهام ، لما تنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق ، فابتدأ فأعلمهم بمنته عليهم أن أنزل لهم لباسا يواري سوآتهم ، ويتجملون به بمناسبة ما قص الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سوءاتهما ، ثم بتحذيرهم من كيد الشيطان وفتنته بقوله : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ثم بأن أمرهم بأخذ اللباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، ثم بأن أخذ عليهم بأن يصدقوا الرسل وينتفعوا بهديهم بقوله : يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم الآية ، واستطرد بين ذلك كله بمواعظ تنفع الذين قصدوا من هذا القصص ، وهم المشركون المكذبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهم المقصود من هذا الكلام [ ص: 73 ] كيفما تفننت أساليبه وتناسق نظمه ، وأيا ما كان فالمقصود الأول من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركو العرب ومكذبو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك تخللت هذه الخطابات مستطردات وتعريضات مناسبة لما وضعه المشركون من التكاذيب في نقض أمر الفطرة .

والجمل الثلاث من قوله : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا وقوله يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان وقوله يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد متصلة تمام الاتصال بقصة فتنة الشيطان لآدم وزوجه ، أو متصلة بالقول المحكي بجملة : قال فيها تحيون على طريقة تعداد المقول تعدادا يشبه التكرير .

وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين ، ولكن الحظ الأوفر منه للمشركين ؛ لأن حظ المؤمنين منه هو الشكر على يقينهم بأنهم موافقون في شئونهم لمرضاة ربهم ، وأما حظ المشركين فهو الإنذار بأنهم كافرون بنعمة ربهم ، معرضون لسخطه وعقابه .

وابتدئ الخطاب بالنداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم ، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرتين وقع عجيب ، بعد الفراغ من ذكر قصة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشيطان ، وذلك أن شأن الذرية أن تثأر لآبائها ، وتعادي عدوهم ، وتحترس من الوقوع في شركه .

ولما كان إلهام الله آدم أن يستر نفسه بورق الجنة منة عليه ، وقد تقلدها بنوه ، خوطب الناس بشمول هذه المنة لهم بعنوان يدل على أنها منة موروثة ، وهي أوقع وأدعى للشكر ، ولذلك سمي تيسير اللباس لهم وإلهامهم إياه إنزالا ، لقصد تشريف هذا المظهر ، وهو أول مظاهر الحضارة ، بأنه منزل على الناس من عند الله ، أو لأن الذي كان منه على آدم نزل به من الجنة إلى الأرض التي هو فيها ، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص ، [ ص: 74 ] على أن مجرد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي ، مع ما فيه من عظيم الجدوى على الناس والنفع لهم ، يحسن استعارة فعل الإنزال إليه ، تشريفا لشأنه ، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النفع ، كما في قوله : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدفاع به ، وكذلك قوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج أي : خلقها لكم في الأرض بتدبيره ، وعلمكم استخدامها والانتفاع بما فيها ، ولا يطرد في جميع ما ألهم إليه البشر مما هو دون هذه في الجدوى ، وقد كان ذلك اللباس الذي نزل به آدم هو أصل اللباس الذي يستعمله البشر .

وهذا تنبيه إلى أن اللباس من أصل الفطرة الإنسانية ، والفطرة أول أصول الإسلام ، وأنه مما كرم الله به النوع منذ ظهوره في الأرض ، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قربانهم نزع لباسهم بأن يحجوا عراة كما سيأتي عند قوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده فخالفوا الفطرة ، وقد كان الأمم يحتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللباس ، كما حكى الله عن موسى عليه السلام وأهل مصر : قال موعدكم يوم الزينة .

واللباس اسم لما يلبسه الإنسان أي يستر به جزءا من جسده ، فالقميص لباس ، والإزار لباس ، والعمامة لباس ، ويقال لبس التاج ولبس الخاتم قال تعالى : وتستخرجون حلية تلبسونها ومصدر لبس اللبس - بضم اللام - .

وجملة : يواري سوآتكم صفة لـ لباسا ، وهو صنف اللباس اللازم ، وهذه الصفة صفة مدح اللباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآية إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة ، وهي السوأة ، وأما ستر ما عداها من الرجل والمرأة فلا تدل الآية عليه ، وقد ثبت بعضه بالسنة ، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه .

[ ص: 75 ] والريش لباس الزينة الزائد على ما يستر العورة ، وهو مستعار من ريش الطير لأنه زينته ، ويقال للباس الزينة رياش .

وعطف ريشا على : لباسا يواري سوآتكم عطف صنف على صنف ، والمعنى يسرنا لكم لباسا يستركم ولباسا تتزينون به .

وقوله : ولباس التقوى قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو جعفر : بالنصب ، عطفا على لباسا فيكون من اللباس المنزل أي الملهم ، فيتعين أنه لباس حقيقة أي شيء يلبس ، والتقوى ، على هذه القراءة ، مصدر بمعنى الوقاية ، فالمراد : لبوس الحرب ، من الدروع والجواشن والمغافر . فيكون كقوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم . والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور ، وهو اللباس بأصنافه الثلاثة ، أي خير أعطاه الله بني آدم ، فالجملة مستأنفة أو حال من لباسا وما عطف عليه .

وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخلف : برفع : لباس التقوى على أن الجملة معطوفة على جملة قد أنزلنا عليكم لباسا ، فيجوز أن يكون المراد بلباس التقوى مثل ما يرد به في قراءة النصب . ويجوز أن يكون المراد بالتقوى تقوى الله وخشيته ، وأطلق عليها اللباس إما بتخييل التقوى بلباس يلبس ، وإما بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللابس لباسه ، كقوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن مع ما يحسن هذا الإطلاق من المشاكلة .

وهذا المعنى الرفع أليق به . ويكون استطرادا للتحريض على تقوى الله ، فإنها خير للناس من منافع الزينة ، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه .

وجملة : ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون استئناف ثان على قراءة : ولباس التقوى بالنصب بأن استأنف بعد الامتنان بأصناف اللباس ، استئنافين يؤذنان بعظيم النعمة : الأول بأن اللباس خير للناس ، والثاني بأن اللباس آية من آيات الله تدل على علمه ولطفه ، وتدل على [ ص: 76 ] وجوده ، وفيها آية أخرى وهي الدلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمة يغلب عليها الضلال فيكونون في حجهم عراة ، فلذلك أكد الوصاية به . والمشار إليه بالإشارة التي في الجملة الثانية ، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثانية مستقلة غير معطوفة .

وعلى قراءة رفع : ولباس التقوى تكون جملة : ذلك من آيات الله استئنافا واحدا ، والإشارة التي في الجملة الثانية عائدة إلى المذكور قبل من أصناف اللباس حتى المجازي على تفسير لباس التقوى بالمجازي .

وضمير الغيبة في : لعلهم يذكرون التفات ، أي جعل الله ذلك آية لعلكم تتذكرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتقدير واللطف ، وفي هذا الالتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنه غائب عن حضرة الخطاب ، على أن ضمائر الغيبة ، في مثل هذا المقام في القرآن ، كثيرا ما يقصد بها مشركو العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية