الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون وإذا فعلوا فاحشة معطوف على للذين لا يؤمنون ، فهو من جملة الصلة ، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعللاتهم ومعاذيرهم الفاسدة ، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنهم اتبعوا آباءهم وأن الله أمرهم بذلك ، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذبين ، بقرينة قوله : [ ص: 82 ] قل إن الله لا يأمر بالفحشاء والمقصود من جملتي الصلة : تفظيع حال دينهم بأنه ارتكاب فواحش ، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول . وجاء الشرط بحرف إذا الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشرط ليشير إلى أن هذا حاصل منهم لا محالة .

والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي : فعلة فاحشة ثم نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه ، فصارت الفاحشة اسما للعمل الذميم ، وهي مشتقة من الفحش - بضم الفاء - وهو الكثرة والقوة في الشيء المذموم والمكروه ، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السليمة ، أو ينشأ عنها ضر وفساد بحيث يأباها أهل العقول الراجحة ، وينكرها أولو الأحلام ، ويستحيي فاعلها من الناس ، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزنا والوأد والسرقة ، ثم تنهى عنها الشرائع الحقة ، فالفعل يوصف بأنه فاحشة قبل ورود الشرع ، كأفعال أهل الجاهلية ، مثل السجود للتماثيل والحجارة وطلب الشفاعة منها وهي جماد ، ومثل العراء في الحج ، وترك تسمية الله على الذبائح ، وهي من خلق الله وتسخيره ، والبغاء ، واستحلال أموال اليتامى والضعفاء ، وحرمان الأقارب من الميراث ، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه ، وقتل غير القاتل لأنه من قبيلة القاتل ، وتحريمهم على أنفسهم كثيرا من الطيبات التي أحلها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدم . وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالفاحشة في الآية التعري في الحج ، وإنما محمل كلامه على أن التعري في الحج من أول ما أريد بالفاحشة لا قصرها عليه فكأن أيمة الشرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم ، وجماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالفين الذين هم قدوة لخلفهم ، واعتقدوا أن آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا ، ثم عطفوا على ذلك أن الله أمر بذلك يعنون أن آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم ، ولكنهم رسموها بأمر من الله تعالى ، ففهم منه أنهم اعتذروا [ ص: 83 ] لأنفسهم واعتذروا لآبائهم ، فمعنى قولهم : والله أمرنا بها ليس ادعاء بلوغ أمر من الله إليهم ولكنهم أرادوا أن الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرسوم وسنوها فكان أمر الله آباءهم أمرا لهم ، لأنه أراد بقاء ذلك في ذرياتهم ، فهذا معنى استدلالهم ، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتمادا على فطنة المخاطبين .

وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله : وإذا فعلوا فاحشة قالوا : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع ، وقد يكون القائل غير الفاعل ، والفاعل غير قائل ، اعتدادا بأنهم لما صدق بعضهم بعضا في ذلك فكأنهم فعلوه كلهم ، واعتذروا عنه كلهم .

وأفاد الشرط ربطا بين فعلهم الفاحشة وقولهم : وجدنا عليها آباءنا باعتبار إيجاز في الكلام يدل عليه السياق ، إذ المفهوم أنهم إذا فعلوا فاحشة فأنكرت عليهم أو نهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وليس المراد بالإنكار والنهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم ، ولكن المراد نهي أي ناه وإنكار أي منكر ، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل ، فإن دين المشركين كان أشتاتا مختلفا ، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمية بن أبي الصلت ، وقد قال لهم زيد بن عمرو : " إن الله خلق الشاة وأنزل لها الماء من السماء وأنبت لها العشب ثم أنتم تذبحونها لغيره " وكان ينكر عليهم من يتحرج من أفعالهم ثم لا يسعه إلا اتباعهم فيها إكراها .

وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالهم هواه : كما وقع لامرئ القيس ، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حجرا ، فقصد ذا الخلصة - صنم خثعم - واستقسم عنده بالأزلام فخرج له الناهي فكسر الأزلام وقال :

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا مثلي وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا [ ص: 84 ] ثم جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدوا للاعتذار . وقد علم من السياق تشنيع معذرتهم وفساد حجتهم .

ودلت الآية على إنكار ما كان مماثلا لهذا الاستدلال وهو كل دليل توكأ على اتباع الآباء في الأمور الظاهر فسادها وفحشها ، وكل دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه ، فإن قولهم : والله أمرنا بها دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلغ ، فإنهم كانوا ينكرون النبوءة ، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى .

وقد رد الله ذلك عليهم بقوله لرسوله : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء فأعرض عن رد قولهم : وجدنا عليها آباءنا لأنه إن كان يراد رده من جهة التكذيب فهم غير كاذبين في قولهم ، لأن آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش ، وإن كان يراد رده من جهة عدم صلاحيته للحجة فإن ذلك ظاهر ، لأن الإنكار والنهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم ، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، فصار رد هذه المقدمة من دليلهم بديهيا وكان أهم منه رد المقدمة الكبرى ، وهي مناط الاستدلال ، أعني قولهم : والله أمرنا بها .

فقوله : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء نقض لدعواهم أن الله أمرهم بها أي بتلك الفواحش ، وهو رد عليهم ، وتعليم لهم ، وإفاقة لهم من غرورهم ، لأن الله متصف بالكمال فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه ، فكون الفعل فاحشة كاف في الدلالة على أن الله لا يأمر به لأن الله له الكمال الأعلى ، وما كان اعتذارهم بأن الله أمر بذلك إلا عن جهل ، ولذلك وبخهم الله بالاستفهام التوبيخي بقوله : أتقولون على الله ما لا تعلمون أي ما لا تعلمون أن الله أمر به ، فحذف المفعول لدلالة ما تقدم عليه ، لأنهم لم يعلموا أن الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه ، وإنما قالوه [ ص: 85 ] عن مجرد التوهم ، ولأنهم لم يعلموا أن الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرذائل .

وضمن : تقولون معنى تكذبون أو معنى تتقولون ، فلذلك عدي بعلى ، وكان حقه أن يعدى بعن لو كان قولا صحيح النسبة ، وإذ كان التوبيخ واردا على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يتحقق عدم وروده من الله أحرى .

وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضلال والغرور واتباع وحي الشياطين إلى أوليائهم أيمة الكفر ، وقادة الشرك مثل عمرو بن لحي ، الذي وضع عبادة الأصنام ، ومثل أبي كبشة ، الذي سن عبادة الشعرى من الكواكب ، ومثل ظالم بن أسعد ، الذي وضع عبادة العزى ، ومثل القلمس ، الذي سن النسيء . إلى ما اتصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوت الشرك .

واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التقليد في الأمور الفرعية أو الأصول الدينية لأن التقليد الذي نعاه الله على المشركين وهو تقليدهم من ليسوا أهلا لأن يقلدوا ، لأنهم لا يرتفعون عن رتبة مقلديهم ، إلا بأنهم أقدم جيلا ، وأنهم آباؤهم ، فإن المشركين لم يعتذروا بأنهم وجدوا عليه الصالحين وهداة الأمة ، ولا بأنه مما كان عليه إبراهيم وأبناؤه ، ولأن التقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد أعمال بديهية الفساد ، والتقليد في الفساد يستوي ، هو وتسنينه ، في الذم ، على أن تسنين الفساد أشد مذمة من التقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصحيح : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل وحديث من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .

فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسرين في هذه الآية من القول في ذم التقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلا في فعل الفواحش .

التالي السابق


الخدمات العلمية