الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه

                                                                                                                                                                                                        4739 حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) كذا ترجم بلفظ المتن ، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية بالواو .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن سعد بن عبيدة ) كذا يقول شعبة ، يدخل بين علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة . [ ص: 693 ] وخالفه سفيان الثوري فقال : " عن علقمة عن أبي عبد الرحمن " ولم يذكر سعد بن عبيدة . وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه " الهادي في القرآن " في تخريج طرقه ، فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعا كثيرا ، وأخرجه أبو بكر بن أبي داود في أول الشريعة له وأكثر من تخريج طرقه أيضا ، ورجح الحفاظ رواية الثوري وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد . وقال الترمذي كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة . وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعا محفوظان ، فيحمل على أن علقمة سمعه أولا من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به ، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد ، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة وهي قول أبي عبد الرحمن " فذلك الذي أقعدني هذا المقعد " كما سيأتي البحث فيه . وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عبيدة فيه ، قال الترمذي " حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا سفيان وشعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة به " وقال النسائي " أنبأنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان أن علقمة حدثهما عن سعد " قال الترمذي قال محمد بن بشار : أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة وهو الصحيح اه . وهكذا حكم علي بن المديني على يحيى القطان فيه بالوهم ، وقال ابن عدي : جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان ، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة . وهذا مما عد في خطأ يحيى القطان على الثوري . وقال في موضع آخر : حمل يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة فساق الحديث عنهما ، وحمل إحدى الروايتين على الأخرى فساقه على لفظ شعبة ، وإلى ذلك أشار الدارقطني . وتعقب بأنه فصل بين لفظيهما في رواية النسائي فقال : " قال شعبة خيركم وقال سفيان أفضلكم " . قلت : وهو تعقب واه ، إذ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد " قال ابن عدي : يقال إن يحيى القطان لم يخطئ قط إلا في هذا الحديث . وذكر الدارقطني أن خلاد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري على زيادة سعد بن عبيدة وهي رواية شاذة ، وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم عن الثوري وقيس بن الربيع ، وفي رواية عن يحيى بن آدم عن شعبة وقيس بن الربيع جميعا عن علقمة عن سعد بن عبيدة قال : وكذا رواه سعيد بن سالم القداح عن الثوري ومحمد بن أبان كلاهما عن علقمة بزيادة سعد وزاد في إسناده رجلا آخر كما سأبينه ، وكل هذه الروايات وهم ، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد وعن شعبة بإثباته .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عثمان ) في رواية شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود أخرجه ابن أبي داود بلفظ : " خيركم من قرأ القرآن وأقرأه " وذكره الدارقطني وقال : الصحيح عن أبي عبد الرحمن عن عثمان . وفي رواية خلاد بن يحيى عن الثوري بسنده قال : " عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان " قال الدارقطني : هذا وهم ، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون السلمي أخذه عن أبان بن عثمان عن عثمان ثم لقي عثمان فأخذه عنه ، وتعقب بأن أبا عبد الرحمن أكثر من أبان . وأبان اختلف في سماعه من أبيه أشد مما اختلف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان فبعد هذا الاحتمال . وجاء من وجه آخر كذلك أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام " عن محمد بن أبان سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان " فذكره وقال : تفرد به سعيد بن سلام يعني عن محمد بن أبان قلت : وسعيد ضعيف ، وقد قال أحمد : حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال : لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان وكذا نقله أبو عوانة في صحيحه عن شعبة ثم قال : اختلف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان ونقل ابن أبي داود عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة . وذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلما سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه . قلت : قد وقع في بعض [ ص: 694 ] الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن ، وذلك فيما أخرجه ابن عدي في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد الرحمن " حدثني عثمان " وفي إسناده مقال ، لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة ، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج ، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور ، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان ، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان - رضي الله عنه - ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان ، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره ، فكان هذا أولى من قول من قال : إنه لم يسمع منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) كذا للأكثر وللسرخسي " أو علمه " وهي للتنويع لا للشك ، وكذا لأحمد عن غندر عن شعبة وزاد في أوله " إن " وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو ، وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه الترمذي من حديث علي وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي بأو تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا وإن لم يتعلمه ، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضا أن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره ، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم ، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط ، بل من أشرف العمل تعليم الغير ، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه ، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد ، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علما ما في ذلك ، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه فيثبت المدعى . ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل ، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع ، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها فإن قيل : فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه قلنا : لا ، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب ، فكان الفقه لهم سجية ، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك ، لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه . فإن قيل فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، قلنا حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل ، فلعل " من " مضمرة في الخبر ، ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم . ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك ، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه ، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن ، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج ) أي حتى ولي الحجاج على العراق [ ص: 695 ] قلت : بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة ، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك ، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها ، والقائل " وأقرأ إلخ " هو سعد بن عبيدة فإنني لم أر هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة ، وقائل " وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا " هو أبو عبد الرحمن ، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري " قال سعد بن عبيدة وأقرأني أبو عبد الرحمن " قال : وهي أنسب لقوله " وذاك الذي أقعدني إلخ " أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل اه . والذي في معظم النسخ " وأقرأ " بحذف المفعول وهو الصواب ، وكأن الكرماني ظن أن قائل " وذاك الذي أقعدني " هو سعد بن عبيدة ، وليس كذلك بل قائله أبو عبد الرحمن ، ولو كان كما ظن للزم أن تكون المدة الطويلة سيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة ، وليس كذلك بل إنما سيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن ، وأيضا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان ، وسعد لم يدرك زمان عثمان ، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنة ، وكان يلزم أيضا أن تكون الإشارة بقوله " وذلك " إلى صنيع أبي عبد الرحمن ، وليس كذلك بل الإشارة بقوله ذلك إلى الحديث المرفوع ، أي أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة ، وقد وقع الذي حملنا كلامه عليه صريحا في رواية أحمد عن محمد بن جعفر وحجاج بن محمد جميعا عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة قال : " قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني هذا المقعد " وكذا أخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وقال : فيه " مقعدي هذا " ، قال : وعلم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان حتى بلغ الحجاج ، وعند أبي عوانة من طريق بشر بن أبي عمرو وأبي غياث وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة بلفظ : " قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ، وكان يعلم القرآن " والإشارة بذلك إلى الحديث كما قررته ، وإسناده إليه إسناد مجازي ، ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان وقد وقع في رواية أبي عوانة أيضا عن يوسف بن مسلم عن حجاج بن محمد بلفظ : " قال أبو عبد الرحمن : وهو الذي أجلسني هذا المجلس " وهو محتمل أيضا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية