الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن باب الإشارة في الآيات وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو أعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب أولاها: غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى، وثانيتها: غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق، وثالثتها: غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ، ورابعتها: غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه. وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه، وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضورا، فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة مفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز وجل وقد يفتح منها ما شاء لما يشاءه

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وقد يقال : حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهيتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه بناء على عود الضمير إلى الشيء، وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصور مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ [ ص: 192 ] لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال : إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده ويعلم ما في البر أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها والبحر أي بحر القلوب من لآلئ الحكم ومرجان العرفان وما تسقط من ورقة من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب إلا يعلمها في سائر أحوالها ولا حبة من بذر الجلال والجمال في ظلمات الأرض وهو عالم الطبائع والأشباح ولا رطب من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج ولا يابس من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها إلا في كتاب مبين وهو علمه سبحانه الجامع، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها، ويمكن أن يقال إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية وهو الذي يتوفاكم بالليل أي ينيمكم، وقيل : يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال ويعلم ما جرحتم أي كسبتم بالنهار من الأعمال مطلقا، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان ثم يبعثكم فيه أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة، وقيل: الحسنة، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى ليقضى أجل مسمى أي معين عنده (ثم إلى ربكم ترجعون) في عين الجمع المطلق (فينبئكم بما كنتم تعملون) بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها، وهو القاهر فوق عباده لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر والله من ورائهم محيط

                                                                                                                                                                                                                                      ويرسل عليكم حفظة وهي القوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصورة مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ، قيل: هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ثم ردوا إلى الله في عين الجمع المطلق مولاهم أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به الحق وكل ما سواه باطل، وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين، واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد

                                                                                                                                                                                                                                      قل من ينجيكم من ظلمات البر وهي الغواشي النفسانية والبحر وهي حجب صفات القلب تدعونه إلى كشفها تضرعا في نفوسكم وخفية في أسراركم لئن أنجيتنا من هذه الغواشي والحجب لنكونن من الشاكرين بنعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين قل الله ينجيكم منها بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن [ ص: 193 ] يمن عليكم بالفناء ثم أنتم بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك تشركون به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية أو من تحت أرجلكم بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية أو يلبسكم شيعا فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال ويذيق بعضكم بأس بعض بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف لكل نبإ أي ما ينبأ عنه مستقر أي محل وقوع واستقرار وسوف تعلمون حين يكشف عنكم حجب أبدانكم وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها فأعرض عنهم لأنهم محجوبون مشركون وما على الذين يتقون وهم المتجردون عن صفاتهم من حسابهم أي من حساب هؤلاء المحجوبين من شيء ولكن ذكرى أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم من سماع الإنذار وتأثيره فيهم وذكر به أي بالقرءان كراهة أن تبسل نفس بما كسبت أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك، وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وهو شدة الشوق إلى الكمال وعذاب أليم وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة ونرد على أعقابنا بالشرك بعد إذ هدانا الله إلى التوحيد الحقيقي كالذي استهوته الشياطين من الوهم والتخيل في الأرض أي أرض الطبيعة ومهامه النفس حيران لا يدري أين يذهب له أصحاب من الفكر والقوى النظرية يدعونه إلى الهدى الحقيقي يقولون ائتنا فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع قل إن هدى الله وهو طريق التوحيد هو الهدى وغيره غيره وأمرنا لنسلم لرب العالمين بمحو صفاتنا وأن أقيموا الصلاة الحقيقية وهو الحضور القلبي

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطاء : إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار واتقوه أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم وهو الذي إليه تحشرون بالفناء فيه سبحانه وهو الذي خلق السماوات أي سموات الأرواح والأرض أي أرض الجسم بالحق أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته ويوم يقول كن فيكون وهو وقت تعلق إرادته القديمة بالظهور في التعينات قوله الحق لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان، وله الملك يوم ينفخ في الصور وهو وقت إفاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة. عالم الغيب أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت والشهادة أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك وهو الحكيم الذي أفاض على القوابل حسب القابليات الخبير بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية