الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك إشارة إلى ما ذكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : أن لم يكن ربك مهلك القرى بحذف اللام على أن " أن " مصدرية ، أو مخففة من " أن " ، وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : بظلم متعلق إما بمهلك ; أي : بسبب ظلم ، أو بمحذوف وقع حالا من القرى ; أي : ملتبسة بظلم ، فإن ملابسة أهلها للظلم ملابسة للقرية له بواسطتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما كونه حالا من ربك ، أو من ضميره في مهلك كما قيل ; فيأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة ، فلا يحسن تقييده بقوله تعالى : وأهلها غافلون والمعنى : ذلك ثابت لانتفاء كون ربك ، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ; أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه ، وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب ، وإن قضى به بديهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم ; أي : لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ، لما أمكن التوبيخ بما ذكر ، ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ، ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل ، كما في قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار ، مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ; لبيان كمال [ ص: 187 ] نزاهته سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين : الدنيوي والأخروي معا ، من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده ، حيث اقتصر على نفي التعذيب الدنيوي عنه تعالى ، ليثبت نفي التعذيب الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهاني بطريق الأولوية .

                                                                                                                                                                                                                                      فإنه تعالى حيث لم يعذبهم بعذاب يسير منقطع بدون إنذار ، فلأن لا يعذبهم بعذاب شديد مخلد أولى وأجلى ، ولو علل بما ذكر من نفي التعذيب لانصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلام من نفي التعذيب الأخروي ، ونفي التعذيب الدنيوي غير متعرض له ، لا صريحا ولا دلالة ; ضرورة أن نفي الأعلى لا يدل على نفي الأدنى ، ولأن ترتب العذاب الدنيوي على الإنذار عند عدم تأثر المنذرين منه معلوم مشاهد عند السامعين ، فيستدلون بذلك على أن التعذيب الأخروي أيضا كذلك ، فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذار أشد انزجار ، هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم السلام وإنذارهم ، وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور ، فبمعزل من مقتضى المقام ، والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية