الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      ثم شرع سبحانه يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال : وإذ أي : اذكروا ما تعلمون في كتابكم من حال من كسب سيئة محيطة ، واذكروا إذ أخذنا بما لنا من تلك العظمة التي أشهدناكم كثيرا منها ميثاقكم ، ولكنه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وغيرهم . فقال : ميثاق بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون معطوفا على : " نعمتي " في قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم لأن الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم . [ ص: 2 ] ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتبا له على الأحق فالأحق ، فقال ذاكرا له في صيغة الخبر مريدا به النهي والأمر وهو أبلغ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف " وقولوا " عليه ، لا تعبدون إلا الله المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحسانا هو الإحسان كله ، "و" أحسنوا أو تحسنون ، "بالوالدين" ولو كانا كافرين . قال الحرالي : تثنية والد من الولادة لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه انتهى . "إحسانا " : عظيما لا يبلغ كنهه ، لكونهما في الرتبة الثانية لجعلهما سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأول والمباشرين للتربية .

                                                                                                                                                                                                                                      وغير السياق فلم يقل : ولا تحسنون إلا إلى الوالدين ، إفهاما لأن الإحسان إليهما يشركهما فيه من بعدهما ، لو جبر فوات هذا الحصر بتقديمهما إيذانا بالاهتمام ، وذي القربى وهم المتوسلون بالوالدين لما لهم من أكيد الوصلة [ ص: 3 ] واليتامى لضعفهم ، واليتم قال الحرالي : فقد الأب حين الحاجة ، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ ، وفي البنت إلى الثيوبة لبقاء حاجتها بعد البلوغ ، والقربى فعلى من القرابة وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن انتهى . والمساكين لكسرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكنا أمر بجعل [ ص: 4 ] ذلك بالقول فقال عطفا على الخبر الذي معناه الإنشاء : وقولوا للناس عامة ، حسنا أي : حسنا بالتحريك ، وهو لغة فيه كالبخل والبخل ، وذلك بأن يأمروهم بما أمر الله به وينهوهم عما نهى عنه . ولما أمرهم بما إن امتثلوه اجتمعت كلمتهم ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال : وأقيموا الصلاة ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه ، فقال : وآتوا الزكاة ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي ، فقال : ثم توليتم أي : عن ذلك أو عن كثير منه ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن الأمور الدينية لحسنها لا يعرض عنها إلا بعلاج بين الفطرة الأولى والأمارة ، إلا قليلا منكم وأنتم أي : والحال أنكم [ ص: 5 ] معرضون عادتكم ذلك ، لم يكن ذلك منكم عن غير علم ، والإعراض صرف الشيء إلى العرض التي هي الناحية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال السمين : وروي عن أبي عمرو وغيره : إلا قليل - بالرفع ، وفيه أقوال ، أصحها رفعه على الصفة بتأويل إلا وما بعدها بمعنى غير . انتهى . ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا الإعراب عند قوله : فشربوا منه إلا قليلا منهم ذكر ما يشهد لذلك من التوراة ، قال في السفر الثاني منها لما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل ، وقال الله جميع هذه الآيات كلها : أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا تكون لك آلهة غيري ، لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ، لأني أنا الرب ، إلهك إله غيور ، أجازي الأبناء بذنوب [ ص: 6 ] الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة من أعدائي ، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي ، لا تقسم بالرب إلهك كذبا ، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذبا ، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور ، لا تتمن بنت صاحبك ، ولا تشتهين امرأة صاحبك ولا كل شيء لصاحبك ، وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح . وقال في موضع آخر من السفر الثالث : لا تسرقوا ، ولا تغدروا ، ولا تحلفوا باسمي كذبا ، ولا تنجسوا اسم الرب إلهكم ، أنا الرب وليس غيري ، لا تظلمن صاحبك ، ولا تشتمن الأخرس ، ولا تضع عثرة بين يدي الضرير ، اتق الله ربك ، لا تحيفوا في القضاء ، ولا تأثموا ، ولا تحابين المسكين ولا تحاب الكبير أيضا بل اقض بالبر والعدل ، لا تبغض أخاك في قلبك بل بكت صاحبك [ ص: 7 ] ووبخه بالحق لكيلا يلزمك خطيئة في سببه ، ولا تحقدن على أحد بل أحبب صاحبك كما تحب نفسك ، ولا تتطيروا بسنح الطير ، ولا يكونن فيكم عراف ، ولا تطولن شعر رؤوسكم ، ولا تحلقوا عنافق لحاكم ، ولا تخدشوا وجوهكم على الميت ، ولا تكتبوا على لحومكم بالإبر ، أنا الله ربكم ، لا تتبعوا العرافين والقافة ولا تنطلقوا إليهم ولا تسألوهم عن شيء لئلا تتنجسوا بهم ، أكرم الشيخ وقم إليه إذا رأيته ، وأكرم من هو أكبر منك ، واتق الله ربك ، أنا الله ربكم ، وإذا سكن بينكم الذي يقبل إلي فلا تظلموه بل أنزلوه منزلة أحدكم وصيروه منكم ، الذين يقبلون إلي ويسكنون معكم أحبوهم كما تحبون أنفسكم لأنكم كنتم سكانا بأرض مصر ، أنا الله ربكم ، لا تأثموا في القضاء ولا تأثموا في الأوزان والمكاييل بل اتخذوا ميزان الحق واتخذوا مكاييل الحق ، أنا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر احفظوا جميع وصاياي : وأحكامي بها ، أنا الرب وليس غيري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الثاني : ومن تبع العرافين والقافة وضل بهم أنزل [ ص: 8 ] به غضبي الشديد وأهلكه من شعبي ، وأي : رجل شتم والديه يقتل قتلا ودمه في عنقه ; ثم قال بعده : وأي : رجل أو امرأة صار عرافا أو منجما يقتلان قتلا ، ويكون قتلهما الرجم بالحجارة ، ودمهما في أعناقهما ; وقال قبل ذلك : وكل من ضرب رجلا فمات فليقتل قتلا ، ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلا ، ومن سرق إنسانا فوجد معه يريد بيعه فليقتل قتلا ، ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلا ، ثم قال : ولا يؤذن الساكن بينكم ولا تعقوهم تحوجوهم ، لأنكم كنتم سكانا بأرض مصر ، ولا تؤذوا الأرامل والأيتام ، فإن آذيتموهم فصلوا بين يدي أسمع صلاتهم وأستجيب لهم فيشتد غضبي وأقتلكم في الحرب وتكون نساؤكم أرامل وبنوكم يصيرون يتامى ، وإن أسلفت رزقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم ، ولا تأخذن منه ربا ; ثم قال : ولا تقبلن الرشوة ، فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء وترد فلج الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية