الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا

قوله تعالى: واذكر معناه: واتل وبلغ، لأن الله تعالى هو الذاكر، و "الكتاب" هو القرآن، وهذا ما أشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، و "الصديق"، فعيل، بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم : "إنه كان صادقا"، والصدق عرفه في [ ص: 36 ] اللسان، وهو مطرد في الأفعال والخلق إلا أنه يستعار لما لا يعقل، فيقال: صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا، ويقال: "عود صدق" للصلب الجيد.

فكان إبراهيم عليه السلام يوصف بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله، وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وصف بصديق لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق، وصدق في مبادرته إلى الإيمان وما يقرب من الله تبارك وتعالى. و للصديق مراتب، ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون .

وقوله: يا أبت ، اختلف النحاة في التاء من "أبت" -فمذهب سيبويه إلى أنها عوض من ياء الإضافة، والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء لأن الياء التي للإضافة عنده منوية، وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود "وا أبت" بواو للنداء، وقرأ ابن عامر ، والأعرج، وأبو جعفر : "يا أبت" بفتح التاء، ووجهها أنه أراد: "يا أبتا" فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قولهم "يا طلحة أقبل"، وفي هذا نظر، وقد لحن هارون هذه القراءة. و "الذي لا يبصر ولا يسمع" هو الصنم، ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده.

وقوله: قد جاءني يدل على أن هذه المقاولة بعد أن نبئ، و "الصراط السوي" معناه: الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان.

وقوله: يا أبت لا تعبد الشيطان مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره، وقوله: لا تعبد الشيطان يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن، ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و "العصي" فعيل من عصى يعصي إذا خالف الأمر.

[ ص: 37 ] وقوله: إني أخاف ، قال الطبري وغيره: "أخاف" بمعنى: أعلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والظاهر عندي أنه خوف على بابه; وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة أيسا من أبيه، فكان يرجو ذلك، وكان يخاف ألا يؤمن ويتمادى على كفره إلى الموت فيمسه العذاب. و "الولي": الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة.

قال آزر -وهو تارخ- : أراغب أنت عن آلهتي ، والرغبة: ميل النفس، فقد تكون الرغبة في الشيء، وقد تكون عنه. وقوله: أراغب رفع بالابتداء، و "أنت" فاعل يسد مسد الخبر، وحسن ذلك وقربه اعتماد "راغب" على ألف الاستفهام، ويجوز أن يكون "راغب" خبرا مقدما، و "أنت" مبتدأ، والأول أصوب، وهو مذهب سيبويه . وقوله: عن آلهتي يريد الأصنام، وكان - فيما روي - ينحتها وينجزها بيده ويبيعها ويحض عليها، فقرر ابنه إبراهيم عليه السلام على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه، ثم أخذ يتوعده.

وقوله: لأرجمنك اختلف فيه المتأولون -فقال السدي ، وابن جريج ، والضحاك : معناه: بالقول، أي: لأشتمنك واهجرني أنت إذا شئت مدة من الدهر، أو سالما، حسب الخلاف الذي سنذكره، وقال الحسن بن أبي الحسن رحمه الله: معناه: لأرجمنك بالحجارة، وقالت فرقة: معناه: لأقتلنك.

وهذان القولان بمعنى واحد، وقوله: واهجرني - على هذا التأويل - إنما يترتب بأنه أمر على حياته، كأنه قال: إن لم تنته قتلتك بالرجم، ثم قال له: واهجرني، أي: مع انتهائك، كأنه جزم له الأمر بالهجرة، وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة. و "مليا" [ ص: 38 ] معناه: دهرا طويلا، مأخوذ من الملوين، وهما الليل والنهار، وهذا قول الجمهور، الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما، فهو ظرف.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "مليا" معناه: سليما سويا، فهو حال من [إبراهيم] عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله: مستبدا بحالك عني غنيا، مليا بالاكتفاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية