الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2864 ] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37) ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الدرس شوط جديد في إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. وهو يختص ابتداء بإبطال نظام التبني الذي ورد الحديث عنه في أول السورة. وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب; وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة. فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة. وسنرى من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق! وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقة المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم، ووظيفة النبي بينهم.. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس، وتطييب القلوب لتقبل أمر [ ص: 2865 ] الله في هذا التنظيم بالرضى والتسليم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد سبق الحديث عن الحادث تقرير قاعدة أن الأمر لله ورسوله، وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. مما يوحي كذلك بصعوبة هذا الأمر الشاق المخالف لمألوف العرب وتقاليدهم العنيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ..

                                                                                                                                                                                                                                      روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حينما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة فيرد الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الموالي - وهم الرقيق المحرر - طبقة أدنى من طبقة السادة. ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي تبناه. فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، قريبته - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه، في أسرته. وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتخذ منه الجماعة المسلمة أسوة، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق.

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن كثير في التفسير قال: قال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : قوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . الآية. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فدخل على / زينب بنت جحش الأسدية - رضي الله عنها - فخطبها، فقالت: لست بناكحته! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بلى فانكحيه" . قالت: يا رسول الله. أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا .. الآية. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم" ! قالت: إذن لا أعصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكحته نفسي!

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش لزيد بن حارثة - رضي الله عنه - فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا - وكانت امرأة فيها حدة - فأنزل الله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ... الآية كلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حين خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فامتنعت ثم أجابت.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - وكانت أول من هاجر من النساء - يعني بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد قبلت" . فزوجها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - (يعني والله أعلم بعد فراقه زينب ) فسخطت هي وأخوها، وقال: إنما أردنا رسول الله - صلى الله [ ص: 2866 ] عليه وسلم - فزوجنا عبده! قال: فنزل القرآن: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا إلى آخر الآية. قال: وجاء أمر أجمع من هذا: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قال: فذاك خاص وهذا أجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية ثالثة: قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ثابت البناني، عن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فنعم إذن" قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لها الله! إذن ما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جليبيبا، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال: والجارية في سترها تسمع. قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها. وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. قال - صلى الله عليه وسلم - : "فإني قد رضيته" . قال: فزوجها.. ثم فزع أهل المدينة ، فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس - رضي الله عنه - فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الروايات - إن صحت - تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد - رضي الله عنهما - أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه، وتولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغييره بفعله وسنته. وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد، وتصوره للقيم في هذه الأرض، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام، المستمدة من روحه العظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص. وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني، وإحلال مطلقات الأدعياء، وحادث زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب - رضي الله عنها - بعد طلاقها من زيد. الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه. والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم، ويلفقون حوله الأساطير!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية