الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [79] إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين

                                                                                                                                                                                                                                      إني وجهت وجهي أي: وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة، بل جعلته مسلما: للذي فطر السماوات والأرض حنيفا أي: مائلا عن الأديان الباطلة، والعقائد الزائغة وما أنا من المشركين

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا المقام:

                                                                                                                                                                                                                                      مباحث:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: توسع المفسرون هنا في قوله: هذا ربي .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر، وأنه لما قال ذلك، قال إبراهيم: لا أحب الآفلين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنه إبراهيم. وكان ذلك في حال الطفولية، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله: لئن لم يهدني ربي ... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة. إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاري، توبيخا لقومه، فحذف الهمزة، ومثله كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: على إضمار القول أي: يقولون هذا ربي، وإضمار القول كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى في زعمكم واعتقادكم. وقيل: الإخبار على سبيل الاستهزاء... إلى أقوال أخر.

                                                                                                                                                                                                                                      والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة، واعتقاد ربوبية ذلك، لمنافاته للعصمة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2377 ] وأقول: هذا مسلم بلا ريب، ولكن الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله: هذا ربي من باب استعمال النصفة مع الخصوم، على سبيل الوضع، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها، لكونها مسلمة عند غيره، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشري على هذا الوجه الفريد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الناصر في "الانتصاف": وذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث، ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة: هي أختي، وإنما عنى: في الإسلام، وقوله: إنه سقيم، وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله: بل فعله كبيرهم ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنه أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال، من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظره لنفسه، لكان أولى أن يعده، وأعظم، مما ذكرناه؛ لأنه حينئذ يكون شكا، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله: لئن لم يهدني ربي الآية... وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان [ ص: 2378 ] لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به، وحان وضعها، ذهبت إلى سرب، ظاهر البلدة، فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين. ثم قال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين، في المقام الأول مع أبيه، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق، وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم، الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا -صلوات الله وسلامه عليه- أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام، خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب، حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن كثير: وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2379 ] وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة» .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء» . وقال تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وقال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ومعناه -على أحد القولين- كقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل [ ص: 2380 ] الذي جعله الله: أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا شك ولا ريب.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرا، قوله تعالى: وحاجه قومه الآية الآتية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وممن جود هذا المبحث الجليل، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه، العلامة الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، ونحن نسوقه عنه تأييدا لهذا البحث المهم، وتعرفا بمعتقد قومه، وما دفعهم إليه، لما فيه من الفوائد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال رحمه الله تحت ترجمة "أصحاب الهياكل والأشخاص": هؤلاء من فرق الصابئة (وهم المتعصبون للروحانيين)، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة، ونذكرها ههنا تفصيلا:

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن أصحاب الروحانيات، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه للتقرب به، ويستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرفوا أولا بيوتها ومنازلها، وثانيا مطالعها ومغاربها، وثالثا اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مرتبة على طبائعها، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامسا تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها، فعملوا الخواتيم، وتعلموا العزائم والدعوات، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته، ولبسوا اللباس الخاص به، وبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعواته الخاصة، وسألوا حاجاتهم منه، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذاك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته، وجميع الإضافات التي [ ص: 2381 ] ذكرنا إليه. وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب. وكانوا يسمونها: أربابا آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، فكانوا يتقربون إلى الهياكل، تقربا إلى الروحانيات - يعني الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات، تقربا إلى البارئ تعالى، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلا، ولكل هيكل فلكا، فالهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي أربابها ومدبراتها، تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا، كما يتصرف في أبداننا. ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضى منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور، كلها من علومهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به، وشفيع يتشفع إليه، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل، لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها، ولكن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في وقت؛ لأن لها طلوعا وأفولا، وظهورا بالليل، وخفاء بالنهار، فلم يصف لنا التقرب بها، والتوجه إليها، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل، فنتقرب بها إلى الروحانيات، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابلة هيكل، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعى منه، فتقربوا إليه في يومه وساعته، وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرعوا بدعائه، وعزموا [ ص: 2382 ] بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عبدة الكواكب والأوثان، فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله: أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام، لا من غيره، كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وقال: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا لأنك جهدت كل الجهد، واستعملت كل العلم، حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا، وأن تغني عنك وتضر وتنفع، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها، لأنك خلقت سميعا بصيرا ضارا نافعا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا، والمعمول تصنعا، فيا لها من حيرة، إذ صار المصنوع بيديك معبودا لك، والصانع أشرف من المصنوع يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان : [ ص: 2383 ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم فلم يقبل حجته القولية. فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل، فجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول، حيث أحال الفعل منهم، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه، قال: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام: بل فعله كبيرهم هذا وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول، ولا مشركا في تلك الإشارة، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال، بأنه لا يصلح أن يكون ربا إلها، فإن الإله القديم لا يتغير، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير، وهذا لو اعتقدتموه ربا قديما وإلها أزليا، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة، فالأفول والزوال أيضا، يخرجه عن الكمال. وعن هذا [ ص: 2384 ] ما استدل عليه بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص، لما عراهم من التحير بالأفول، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم: فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فيا عجبا! من لا يعرف ربا كيف يقول: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد، ونهاية المعرفة، والواصل إلى الغاية والنهاية، كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كله خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف؛ فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج. وعن هذا قال: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار: فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قرر مذهب الحنفاء، وأبطل مذهب الصابئة، وبين أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الطهارة فيها، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها، وأن الفاتحة والخاتمة، والمبدأ والكمال، منوطة بتلخيصها وتحريرها. ذلك الدين القيم، والصراط المستقيم، والمنهج الواضح، والمسلك اللائح. انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى. وإنما نقلت كلامه برمته؛ لأنه كما قيل:


                                                                                                                                                                                                                                      وما محاسن شيء كله حسن



                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى. فجزاه الله خيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2385 ] الثاني: تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو السعود: لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة - عدل عنه إلى الأفول؛ لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد. انتهى. وهو لطيف إلا أن الأول أسد.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: لو قيل: إن الأفول، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا، وقد ثبت ذلك في أكبر الكواكب - (أعني الشمس) - فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى: فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟ أجيب: بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى، إلى الأعلى، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد، لا يحصل من غيره، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى - أفاده الرازي -.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: قال الرازي: تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل، لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية