الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله ونبوة الأنبياء ، وتكبروا عن الإيمان بها لا تفتح لهم أبواب السماء قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر: "تفتح"; بالتاء ، وشددوا التاء الثانية . وقرأ أبو عمرو: "لا تفتح" بالتاء خفيفة . ساكنة الفاء . وقرأ حمزة ، والكسائي: "لا يفتح" بالياء مضمومة خفيفة . وقرأ اليزيدي عن اختياره: "لا تفتح" بتاء مفتوحة أبواب السماء بنصب الباء ، فكأنه أشار إلى أفعالهم . وقرأ الحسن: بياء مفتوحة ، مع نصب الأبواب ، كأنه يشير إلى الله عز وجل . وفي معنى الكلام أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، والسدي في آخرين ، والأحاديث تشهد به .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لا تفتح لأعمالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ، رواه عطاء عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم ، قاله ابن جريج ، ومقاتل . [ ص: 197 ] وفي السماء قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها السماء المعروفة ، وهو المشهور .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن لمعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها ، لأن الجنة في السماء ، ذكره الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: حتى يلج الجمل في سم الخياط الجمل: هو الحيوان المعروف . فإن قال قائل: كيف خص الجمل دون سائر الدواب ، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصل المقصود; والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة ، كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة ، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه ، جاز ، والناس يقولون: فلان لا يساوي درهما ، وهذا لا يغني عنك فتيلا ، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب ، فإنهم يقدمونه في القوة على غيره ، لأنه يوقر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب ، ولهذا عجبهم من خلق الإبل ، فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [الغاشية:17] ، فآثر الله ذكره على غيره لهذا المعنى . ذكر الجوابين ابن الأنباري . قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: "حتى يلج الجمل" بضم الجيم وتشديد الميم ، وقال: هو القلس الغليظ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المصنف: وهي قراءة أبي رزين ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وأبي مجلز ، وابن يعمر ، وأبان عن عاصم . قال: وروى مجاهد عن ابن عباس: "حتى يلج الجمل" بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها . [ ص: 198 ] قلت: وهي قراءة قتادة ، وقد رويت عن سعيد بن جبير ، وأنه قرأ: "حتى يلج الجمل" بضم الجيم وتسكين الميم . قلت: وهي قراءة عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري: فالجمل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجمل ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجمال ، قيل في جمعها: جمل ، كما يقال حجرة ، وحجر ، وظلمة ، وظلم . وكذلك من قرأ: "الجمل" يسوغ له أن يقول: الجمل ، بمعنى الجمل ، وأن يقول: الجمل ، جمع جملة ، مثل بسرة ، وبسر . وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال ، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال . وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: "الجمل" بضم الجيم والميم ، وبالتخفيف ، وهي قراءة الضحاك ، والجحدري . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء: "الجمل" بفتح الجيم ، وبسكون الميم خفيفة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: في سم الخياط السم في اللغة: الثقب . وفيها ثلاث لغات: فتح السين ، وبها قرأ الأكثرون ، وضمها ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن محيصن ، وطلحة بن مصرف ، وكسرها ، وبه قرأ أبو عمران الجوني ، وأبو نهيك ، والأصمعي عن نافع . قال ابن القاسم: والخياط: المخيط ، بمنزلة اللحاف والملحف ، والقرام والمقرم . وقد قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو مجلز: في "سم المخيط" وقال الزجاج : الخياط: الإبرة ، وسمها: ثقبها . والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة . أبدا قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب ، ويبيض القار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وكذلك نجزي المجرمين أي: مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية