الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                الوجه السادس عشر أن في الصفات الذاتية المشتركة والمختصة - كالحيوانية والناطقية - إن أرادوا بالاشتراك : أن نفس الصفة الموجودة في الخارج مشتركة فهذا باطل ; إذ لا اشتراك في المعينات التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها .

                وإن أرادوا بالاشتراك : أن مثل تلك الصفة حاصلة للنوع الآخر .

                قيل لهم : لا ريب أن بين حيوانية الإنسان وحيوانية الفرس قدرا مشتركا وكذلك بين صوتيهما وتمييزهما قدرا مشتركا . فإن الإنسان له تمييز وللفرس تمييز ولهذا صوت هو النطق ولذاك صوت هو الصهيل فقد خص كل صوت باسم يخصه . فإذا كان حقيقة أحد هذين يخالف الآخر ويختص بنوعه فمن أين جعلتم حيوانية أحدهما مماثلة لحيوانية الآخر في الحد والحقيقة ؟ وهلا قيل : إن بين حيوانيتهما قدرا مشتركا ومميزا كما أن بين صوتيهما [ ص: 61 ] كذلك ؟ . وذلك أن الحس والحركة الإرادية إما أن توجد للجسم أو للنفس . فإن الجسم يحس ويتحرك بالإرادة والنفس تحس وتتحرك بالإرادة وإن كان بين الوصفين من الفرق ما بين الحقيقتين . وكذلك النطق هو للنفس بالتمييز والمعرفة والكلام النفساني وهو للجسم أيضا بتمييز القلب ومعرفته والكلام اللساني . فكل من جسمه ونفسه يوصف بهذين الوصفين . وليست حركة نفسه وإرادتها ومعرفتها ونطقها مثل ما للفرس وإن كان بينهما قدر مشترك . وكذلك ما يقوم بجسمه من الحس والحركة الإرادية ليس مثل ما للفرس وإن كان بينهما قدر مشترك . فإن الذي يلائم جسمه من مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومشموم ومرئي ومسموع . بحيث يحسه ويتحرك إليه حركة إرادية ليس هو مثل ما للفرس .

                فالحس والحركة الإرادية هي بالمعنى العام لجميع الحيوان وبالمعنى الخاص ليس إلا للإنسان . وكذلك التمييز سواء . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " { أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن . وأصدق الأسماء : حارث وهمام وأقبحها : حرب ومرة } " رواه مسلم .

                فالحارث هو العامل الكاسب المتحرك . والهمام هو الدائم الهم الذي هو مقدم الإرادة . فكل إنسان حارث فاعل بإرادته وكذلك مسبوق بإحساسه .

                [ ص: 62 ] فحيوانية الإنسان ونطقه كل منهما فيه ما يشترك مع الحيوان فيه وفيه ما يختص به عن سائر الحيوان وكذلك بناء بنيته . فإن نموه واغتذاءه وإن كان بينه وبين النبات فيه قدر مشترك فليس مثله هو . إذ هذا يغتذي بما يلذ به ويسر نفسه وينمو بنمو حسه وحركته وهمه وحرثه . وليس النبات كذلك .

                وكذلك أصناف النوع وأفراده . فنطق العرب بتمييز قلوبهم وبيان ألسنتهم أكمل من نطق غيرهم حتى ليكون في بني آدم من هو دون البهائم في النطق والتمييز . ومنهم من لا تدرك نهايته .

                وهذا كله يبين أن اشتراك أفراد الصنف وأصناف النوع وأنواع الجنس والأجناس السافلة في مسمى الجنس الأعلى : لا يقتضي أن يكون المعنى المشترك فيها بالسواء كما أنه ليس بين الحقائق الخارجة شيء مشترك ولكن الذهن فهم معنى يوجد في هذا ويوجد نظيره في هذا . وقد تبين أنه ليس نظيرا له على وجه المماثلة لكن على وجه المشابهة وأن ذلك المعنى المشترك هو في أحدهما على حقيقة تخالف حقيقة ما في الآخر .

                ومن هنا يغلط القياسيون الذين يلحظون المعنى المشترك الجامع دون الفارق المميز .

                والعرب من أصناف الناس والمسلمون من أهل الأديان : أعظم الناس [ ص: 63 ] إدراكا للفروق وتمييزا للمشتركات . وذلك يوجد في عقولهم ولغاتهم وعلومهم وأحكامهم ولهذا لما ناظر متكلمو الإسلام العرب هؤلاء المتكلمة الصابئة عجم الروم وذكروا فضل منطقهم وكلامهم على منطق أولئك وكلامهم : ظهر رجحان كلام الإسلاميين كما فعله القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة كثيرا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم والعقول والنفوس : وواجب الوجود وغير ذلك . وتكلم على منطقهم وتقسيمهم الموجودات كتقسيمهم الموجود إلى الجوهر والعرض ثم تقسيم الأعراض إلى المقولات التسعة وذكر تقسيم متكلمة المسلمين الذي فيه من التمييز والجمع والفرق ما ليس في كلام أولئك .

                وذلك أن الله علم الإنسان البيان كما قال تعالى : { الرحمن } { علم القرآن } { خلق الإنسان } { علمه البيان } وقال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } وقال : { علم الإنسان ما لم يعلم } والبيان : بيان القلب واللسان كما أن العمى والبكم يكون في القلب واللسان كما قال تعالى : { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } وقال : { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { هلا سألوا إذا لم يعلموا ؟ إنما شفاء العي السؤال } " وفي الأثر : " { العي عي القلب لا عي اللسان } " أو قال : " { شر العي عي القلب } " وكان ابن مسعود يقول : " إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه . وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه " .

                [ ص: 64 ] وتبين الأشياء للقلب ضد اشتباهها عليه كما قال صلى الله عليه وسلم " { الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات } - الحديث " . وقد قرئ قوله تعالى { ولتستبين سبيل المجرمين } بالرفع والنصب أي ولتتبين أنت سبيلهم .

                فالإنسان يستبين الأشياء . وهم يقولون : قد بان الشيء وبينته وتبين الشيء وتبينته واستبان الشيء واستبنته كل هذا يستعمل لازما ومتعديا . ومنه قوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } [ و ] هو هنا متعد . ومنه قوله : { بفاحشة مبينة } أي متبينة . فهنا هو لازم . والبيان كالكلام يكون مصدر بان الشيء بيانا ويكون اسم مصدر لبين كالكلام والسلام لسلم وكلم فيكون البيان بمعنى تبين الشيء . ويكون بمعنى بينت الشيء : أي أوضحته . وهذا هو الغالب عليه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " { إن من البيان لسحرا } " .

                والمقصود ببيان الكلام حصول البيان لقلب المستمع حتى يتبين له الشيء ويستبين ; كما قال تعالى : { هذا بيان للناس } الآية . ومع هذا فالذي لا يستبين له كما قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } وقال { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } وقال : { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال : { يبين الله لكم أن تضلوا } وقال : { قل إني على بينة من ربي } الآية . وقال : { أفمن كان على بينة من ربه } وقال : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } وقال : { يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } .

                فأما الأشياء المعلومة التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرة كلام وتفيهق وتشدق وتكبر والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها : فهذا مما ينهى عنه كما جاء في الحديث : " { إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها } " وفي الحديث : " { الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق } " ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " { إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه } " . وفي حديث { سعد لما سمع ابنه أو لما وجد ابنه يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا قال : يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون قوم يعتدون في الدعاء ; فإياك أن تكون منهم إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر } " .

                وعامة الحدود المنطقية هي من هذا الباب : حشو لكلام كثير يبينون به الأشياء ; وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم . فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان وإتعاب الفكر واللسان لا توجب إلا العمى والضلال وتفتح باب [ ص: 66 ] المراء والجدال إذ كل منهم يورد على حد الآخر من الأسئلة ما يفسد به ويزعم سلامة حده منه وعند التحقيق : تجدهم متكافئين أو متقاربين ليس لأحدهم على الآخر رجحان مبين فإما أن يقبل الجميع أو يرد الجميع أو يقبل من وجه [ ويرد من وجه ] .

                هذا في الحدود التي تشترك في تمييز المحدود وفصله عما سواه وأما متى أدخل أحدهما في الحد ما أخرجه الآخر أو بالعكس : فالكلام في هذا علم يستفاد به حد الاسم ومعرفة عمومه وخصوصه مثل الكلام في حد الخمر : هل هي عصير العنب المشتد أم هي كل مسكر ؟ وحد الغيبة ونحو ذلك .

                وهذا هو الذي يتكلم فيه العلماء كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم " { ما الغيبة ؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره } - الحديث " وكذلك قوله : " { كل مسكر خمر } " وقول عمر على المنبر : " الخمر ما خامر العقل " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قال : " { لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال له رجل : يا رسول الله : الرجل يحب أن يكون نعله حسنا وثوبه حسنا أفمن الكبر ذلك ؟ فقال : لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس } " ومنه تفسير الكلام وشرحه وبيانه .

                فكل من شرح كلام غيره وفسره وبين تأويله فلا بد له من معرفة حدود الأسماء التي فيه .

                [ ص: 67 ] فكل ما كان من حد بالقول فإنما هو حد للاسم بمنزلة الترجمة والبيان . فتارة يكون لفظا محضا إن كان المخاطب يعرف المحدود وتارة يحتاج إلى ترجمة المعنى وبيانه إذا كان المخاطب لم يعرف المسمى . وذلك يكون بضرب المثل أو تركيب صفات وذلك لا يفيد تصوير الحقيقة لمن لم يتصورها بغير الكلام فليعلم ذلك .

                وأما ما يذكرونه من حد الشيء أو الحد بحسب الحقيقة أو حد الحقائق فليس فيه من التمييز إلا ذكر بعض الصفات التي للمحدود كما تقدم وفيه من التخليط ما قد نبهنا على بعضه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية