الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :

                        أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله ، فلا إشكال في صحته ، ولا خلاف في إعماله ، وإلا كان مناقضة للشريعة ، كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها .

                        والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله ، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها ، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي ، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ، فحينئذ نقبله ، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال ، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى ، بل [ شهد ] برده ، كان مردودا باتفاق [ ص: 610 ] المسلمين .

                        ومثال [ ذلك ] ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان ، فقال : عليك صيام شهرين متتابعين . فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين ، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا ، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين .

                        فهذا المعنى مناسب ، لأن الكفارة ، مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام .

                        وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به .

                        على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ، لكنه على صريح الفقه .

                        قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة . فسأل مالكا . فقال : صيام ثلاثة أيام . واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة .

                        حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به ، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان ، فأفتوا بالإطعام ، وإسحاق بن إبراهيم ساكت . [ ص: 611 ] فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام . فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك ، إلا إن كنتم تريدون مصانعة أمير المؤمنين . إنما أمر بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له ، إنما هو بيت مال المسلمين ، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه اهـ . وهذا صحيح .

                        نعم ـ حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان ، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته . فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين . فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده ، فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود .

                        فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله ، وكان كلامه على ظاهره ، كان مخالفا للإجماع .

                        ( الثالث ) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه . فهذا على وجهين :

                        أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى ، كتعليل منع القتل للميراث ، فالمعاملة بنقيض المقصود على تقدير أن لم يرد نص على وفقه ؛ فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر ، فلا يصح التعليل بها ، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ، [ ص: 612 ] ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله .

                        والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ، وهو الاستدلال المرسل ، المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية