الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الطيبات حلال الله ، والشيطان يأمر بالفحشاء

                                                          يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 169 ) [ ص: 498 ] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون

                                                          * * *

                                                          النداء بقوله تعالى يا أيها الناس يشمل الناس جميعا مؤمنهم ومشركهم ، وكافرهم سواء أكان وثنيا أم كان كتابيا ، وإن الله تعالى بين حال الذين اتخذوا من دون الله تعالى أندادا . وأنه يوسوس لهم في طعامهم وطيباتهم وما أحل الله تعالى لهم ، ولذا جاء الأمر بالأكل من الحلال والنهي عن تتبع خطوات الشيطان ، بعد التنديد باتخاذ الأنداد ، وبيان الذين يتخذونها يوم القيامة .

                                                          وقال تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا الأمر هنا للإباحة من حيث الجزء ، ولكنه للطلب المفروض من حيث الكل ، فيباح الأكل بالجزء في الأوقات التي يتخيرها ، وفي الطيبات التي يستحسنها ، ولكن لا يباح أن يترك الأكل جملة ، لأنه يؤدي إلى الهلاك وهذا منهي عنه .

                                                          وقوله تعالى : مما في الأرض أي مما تخرجه الأرض من نبات وزرع وثمار وما يمشي من حيوان طيب يحل أكله وما يكون في جوها من طير يطيب أكله .

                                                          وقد ذكر سبحانه وتعالى ما يباح أكله أو يطلب بوصفين : أحدهما أن يكون حلالا لم يحظر أكله كالخنزير والميتة وسباع البهائم وسباع الطير والمنخنقة والموقوذة والمتردية في بئر حتى ماتت ، والنطيحة ، وما أكل السبع من غير تذكية ، وما كان في أصله حلالا ، ولكن اقترن به ما جعله محظورا كالذبح على النصب والاستقسام بالأزلام أو سمي عليه بغير اسم الله ، أو لم يذك تذكية شرعية فإن ذلك كله ليس بحلال .

                                                          [ ص: 499 ] والطيب هو الذي تستطيبه النفوس ، وينميها ويغذيها غذاء صالحا ، ولا يكون طيبا إلا إذا كان كسبه من حلال ولا يكون من حرام ، ولا يكون حلالا إذا كان من الرشوة أو من السحت أو الربا أو من غلول ، وفي الجملة أن يكون كسبه خبيثا ، ولو كان في أصله طيبا . روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا فقال عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت أو الربا ، فالنار أولى به " .

                                                          وبعد الأمر بالحلال نهى عن كل حرام بألا يطيع الشيطان ، فقال تعالى : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهذا يصل الكلام بالآية السابقة التي بينت أن من الناس من اتخذ أندادا بوسوسته وإغرائه .

                                                          الخطوات جمع خطوة بضم الخاء وهي الأفصح ، ويجوز فيها خطوة بفتحها والخطوة ما بين القدمين عند انتقالهما ، والخطوات ما بينهما متتابعا ، وهذا كناية عن السير في طريق ، وتتبع السير فيه ، باتباع حركاته ، وسيرها ، وكأنما شبهت حال أتباعه بحال من يتبع سيره خطوة بعد خطوة ، فلو سار به في ضلال سار معه ، وانهوى به في هاوية من الفساد ، وإن السير وراءه هو سير وراء عدو واضح العداوة ، ولذا قال تعالى معللا النهي بقوله تعالى : إنه لكم عدو مبين بمعنى بين العداوة لا يخفيها ولا يطويها ، فمبين بمعنى إن عداوته جلية واضحة ; لأنه يبينها ولا يخفيها من يوم أن عارض آدم كما قال تعالى : اهبطوا بعضكم لبعض عدو وكما قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وكما قال تعالى : إنه عدو مضل مبين وكما قال تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء

                                                          [ ص: 500 ] وإن النهي عن اتباع خطوات الشيطان له مغزاه ومعناه ، ذلك أن الشيطان يجيء من الحلال الطيب الذي تشتهيه الأنفس فيخلطه بغيره ، ويأخذ بالنفس التي تطيعه من طيب المال إلى سوئه ، ويأخذهم من مشتبهات الحلال إلى الحرام ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " ، فهو يجيئهم من هذه المشتبهات ومن أجل ذلك كان الأمر بالحلال قد اقترن به النهي عن تتبع خطوات الشيطان الآثمة لأنها تجيء على مقربة من الحلال .

                                                          وكذلك من تتبع خطوات الشيطان أن يحرم المباح على نفسه كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله ولقد أتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح وجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم فقال : لا أريد . فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا . قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود : " هذا من خطوات الشيطان " ، وكذلك كل تحريم للطيبات هو من خطوات الشيطان ، فكان النهي عن اتباع الخطوات مقترنا بإباحة ما أحل الله تعالى ; لأنه مخالفة لما قرره الشرع .

                                                          ولقد ذكر الله تعالى أن الشيطان لا يكون منه خير قط ، بل سوء وفحشاء ، وما لا يكون فطريا ، فقال تعالى معللا النهي عن اتباع خطواته : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

                                                          الأمر هنا من الشيطان هو الغواية القوية ، كما قال مخاطبا ربه : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ولما كان أهل الغواية يطيعونه شبه بالأمر فعبر عنه بالأمر ، والسوء : هو ما يسوء وتكون عاقبته السوءى ، سواء أكانت السوءى في النفس ، فتسوء الأنفس ، أم كانت الإساءة للمجتمع ، فالسوء هو ما يكون فيه فساد وهو ضد المصلحة التي يأمر بها الله تعالى ، وإذا كان إغواء الشيطان بما يسوء خاصة وعامة بلا ريب يكون مقتا للنفس وللجماعة وللأخلاق أن تتبع خطواته ; لأنها إلى ضرر لا محالة .

                                                          [ ص: 501 ] ويأمر أيضا بالفحشاء أي يغوي بها ، والفحشاء من الفحش والأمر الفاحش ، وهو الذي يكون خارجا عن الفطرة المستقيمة ، ; إذ الأمر الفاحش هو الزائد زيادة كبيرة ، والفحشاء باعتبارها خروجا على الفطرة الإنسانية تعم المعاصي كلها من زنى وشرب خمر ، وسعي في الأرض بالفساد ، والإيقاع بين الناس بالنميمة والغيبة ، وغير ذلك من المعاصي النفسية واللسانية والاجتماعية ، وتطلق في كثير من آيات القرآن على الزنى فقط ، كقوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا

                                                          وتطلق الفحشاء على المعاصي الكبيرة التي تزيد عن المعقول ، ومن ذلك قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون

                                                          فالشيطان لا يأمر إلا بما فيه مفسدة تسوء الآحاد والجماعات وإلا بالمعاصي التي تفحش حتى لا يستسيغها عاقل إلا من يكون الشيطان قد أغواه .

                                                          ويأمر الشيطان أيضا ، أي يغوي ويضل على ما فسرنا معنى الأمر ، بأن يحرموا على أنفسهم ما لا يعلمون أن الله حرمه ، ويقولون على الله تعالى ما لا يعلمون له دليلا من عند الله ; ولذا قال تعالى في الأمر الثالث الذي يغوي به الشيطان بعد إغوائه بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أغواهم الشيطان بأن يحرموا على أنفسهم بعض الغنم من الإبل والبقر والنعم يحرمون أنواعا منها ، ويزعمون أن الله تعالى حرمها عليهم من غير حجة من عند الله ، كما أشركوا وادعوا أن الله تعالى لا يكره ذلك ، ولو كان يكرهه لمنعنا ، وقال الله تعالى في ذلك : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون فالشيطان كما سول لهم [ ص: 502 ] الشرك بالله تعالى سول لهم أيضا أن يحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله ونسبوا ذلك لله تعالى ، وهذا تطاول على الله تعالى كتطاول الشرك ; إذ يقولون على الله ما لا يعلمون أنه قاله وحكم به ، بظن آثم من عندهم ، ولقد قال الله في جملة ما حرم : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

                                                          ونرى من هذا أن الشيطان يأمر بنقيض ما يأمر الله تعالى ، وأن الشيطان يغري بالظنون الفاسدة التي لا أصل لها ، وإن من أقبح ما يقع فيه الإنسان أن يحل ويحرم وينسب إلى الله تعالى قوله كما قال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم

                                                          وإن إغواء الشيطان لا حدود له فمخارفه مختلفة متكاثرة وصراط الله المستقيم واحد ; ولذا يغري أتباعه باتباع الباطل بكل الطرق يغريهم بالإشراك هم وآباؤهم ، ويغريهم بتحريم ما أحل الله هم وآباؤهم ، ويظهره لهم كأنه الحق جليا بينا ، ولقد قال تعالى في ذلك : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون

                                                          نهانا سبحانه وتعالى أن نتبع خطوات الشيطان ، وبين لنا أنه يأمرنا بالسوء والفحشاء وأن نفتري على الله الكذب ، وأشار سبحانه وتعالى إلى أثره في إغواء المشركين ، وبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إغواء شديدا آخر لهم ، وهو اتباع الآباء من غير فكر ولا عقل يتدبر فعلهم وأقوالهم ، يتدبر ما أثر عنهم أهو حق فيتبع أم باطل فينبذ ، أو هو صدق فيقبل أم كذب فيرد ، أو هو حسن فيقتدي بهم أم هو قبيح عليهم فينكره عليهم ، لا يفكرون في شيء من ذلك ، بل إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، وألفينا معناها وجدنا آباء كانوا واستمروا إلى أن جاءوا وهم تابعون لهم . يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ، وما أنزل [ ص: 503 ] الله تعالى يحمل حجته في ذاته ; لأنه أنزله الله ذو الجلال الخالق الرزاق ذو القوة المتين ، فدليله معه لأنه من عند الله وكفى بهذا دليلا مبينا .

                                                          ولكنهم يعرضون عن هذا الأمر الموجه للحق إلى باطل لا دليل فيه ، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا يضربون عن طلب اتباع الله ويستبدلون به اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير حجة قائمة هادية ، ولا دليل مرشد موجه . إن اتباع الآباء وحده ليس حجة ، وكونهم استمروا عليه ليس دليلا مرشدا ، وإن اتباع الآباء إنما يكون حجة إذا كان عن علم وبينة ، وإذا علمتم أنه كان عن علم وبينة فيكون اتباعهم للحق في ذاته لا لآبائهم لمجرد أنهم آباؤهم ، ولكنهم يتبعونهم من غير بينة ولا دليل ، بل لمجرد التقليد الذي لا يهدي ولا يرشد ; ولذا قال تعالى منددا بتقليدهم الذي أضلهم : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون

                                                          الهمزة للاستفهام التوبيخي الذي هو إنكار ما وقع منهم فقد اتبعوا على غير عقل يوجه ، ولا على اعتقاد هداية قائمة ، والهمزة داخلة على فعل محذوف ، أي أيتبعونهم ، ولو كانوا لا يعقلون ولا يدركون بعقولهم أي شيء في هذا الاتباع ، يتبعونهم في إشراكهم بالله ، ويتبعونهم في تحريم ما أحل الله من طيبات من غير أي سبب موجب ، ولا أي دليل مرشد ، ولا هو فيه هداية ، بل فيه ضلال مبين ، لم يكن عند آبائهم دليل على ما هم عليه عقلوه ، ولم يكن عندهم داعية حق يهتدون بهديه ، وذكر قوله " لا يهتدون " بجوار قوله " لا يعقلون " لاختلاف موضوعهما ، فموضوع العقل تفكر وتدبر وطريقه المنطق والبرهان ، وموضوع الاهتداء اتباع لهاد مرشد كنبي مرسل ، فما كان لهم عقل مفكر ولا هاد يهتدون بهديه ، ولقد قسم الغزالي أهل الإيمان إلى قسمين : قسم يدرك بالبرهان ويسير بالقسط المستقيم ، وقسم يطمئن قلبه إلى الحق ويرتضيه بإشراق قلبه بنور الحكمة والفطرة المستقيمة ، أو باتباع هاد يهديه ويوجهه ويهتدي به ، وقد فقد هؤلاء الأمرين فليس لهم عقل يتدبر ولا هاد يهدي إلى التي هي أقوم ; ولذلك استنكر الله تعالى على المشركين اتباع آبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله تعالى حيث حرموه ونسبوا التحريم إلى الله تعالى من غير حجة ولا سلطان مبين .

                                                          [ ص: 504 ] وإن ذلك مثل قوله تعالى في موضع آخر من الذكر الحكيم : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ومثل قوله تعالى عنهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

                                                          وإن هذا النص السامي الكريم يدل على أن التقليد في العقائد لا يجوز ، وشذ من قال غير ذلك ، وعلى الذين لا يعرفون دليلا أن يسألوا أهل العلم بذلك كما قال تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ولذا يجب على العلماء أن يبينوا للناس عقائدهم ، لا بطريق علم الكلام ، بل بطريق القرآن ، فدليل القرآن هو الغذاء والدواء الشافي ، وأدلة علم الكلام كالدواء الذي يعطى بقدر لمن أصيبوا في عقيدتهم .

                                                          وإن المشركين الذين يتبعون خطوات الشيطان في عقيدتهم ، ويتبعونه فيما يحلون وما يحرمون ، ويقولون نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون بسبب ما أركسوا أنفسهم فيه قد صموا أنفسهم عن سماع الحق ، ولذا قال سبحانه في حالهم : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء

                                                          وقد تكلم المفسرون في هذا التمثيل البليغ ، فقال بعضهم : إن ذلك التمثيل هو تمثيل لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كفروا كمثل الراعي الذي يرعى غنمه ، فينعق : أي فيصيح بالغنم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء زاجرا لينتقل بهم من كلأ إلى كلأ ، ولكن هذا التشبيه لا يليق بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنها لا تسمى بهذا الاسم وهو النعيق .

                                                          وقال بعضهم : إن ذلك تشبيه للذين كفروا في دعوتهم إلى أصنامهم التي لا تملك نفعا ولا ضرا ، كمثل الراعي الذي ينادي غنما لا تسمع إلا دعاء ونداء ما يزجره في الانتقال من كلأ إلى كلأ ، وهذا تشبيه حسن في ذاته ، ولكن القرآن نسق واحد في البيان تأخذ كلماته بعضها بحجز بعض ، وربما لا يتقارب هذا التفسير مع [ ص: 505 ] قوله بعد ذلك صم بكم عمي لأن هذه أوصاف للكافرين وليست أوصافا للغنم .

                                                          بقي التخريج الثالث للمثل وهو بأن يشبه الذين كفروا وما معهم من غنم يرعونها ، يشبهون بالبهائم التي تنعق بأن تصيح بما لا يسمع إلا دعاء إن كانوا في كرب ، ونداء إن كانوا بعيدا .

                                                          والكافرون مع غنمهم مثلهم كناعق ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فأصوات الغنم تتبادل بنعيق لا يفهم ، وبصياح مجاوب للنداء ، فالجميع يتصايح بالنعيق ، والجميع لا يفهم إلا دعاء ونداء .

                                                          ولذا صح أن يوصف المشركون بالأوصاف التي ذكرها الله عنهم ، فقال صم بكم عمي فهم لا يعقلون أي أنهم في عدم سماعهم للحق الذي دعوا إليه كالصم الذين لا يسمعون ، وهو تشبيه حالهم المعنوية في عدم سماعهم لدعوة الحق إذا نادى المنادي به بحال الأصم الذي لا يسمع شيئا ، وفي عدم نطقهم بالحق ، واستجابتهم له بحال الأبكم الذي لا يتكلم . شبه عدم إدراكهم الحق الذي بدت معالمه ، وظهر نوره بحال الأعمى الذي لا يبصر فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور

                                                          وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى : لا يعقلون ما يدعون إليه ، ويتفكرون فيه ويبدون وكأنهم لم يسمعوه ، ولا يفكرون في الاستجابة بالإذعان والتسليم ولا يستضيئون بنوره .

                                                          فتح الله قلوبنا للحق إذ نسمع داعيه ، ورطب ألسنتنا بالحق لنجيب نداءه ، وأنار بصرنا وبصيرتنا لنراه إنه سميع الدعاء .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية