الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين تقديم وبينهما وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسط بين الجنة والنار وما ذكر من شأنه . وبهذا التقديم صح تصحيح الابتداء بالنكرة ، والتنكير للتعظيم .

وضمير بينهما يعود إلى لفظي الجنة والنار الواقعين في قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار . وهما اسما مكان ، فيصلح اعتبار [ ص: 141 ] التوسط بينهما . وجعل الحجاب فصلا بينهما ، وتثنية الضمير تعين هذا المعنى ، ولو أريد من الضمير فريقا أهل الجنة وأهل النار ، لقال : بينهم . كما قال في سورة الحديد فضرب بينهم بسور الآية .

والحجاب سور ضرب فاصلا بين مكان الجنة ومكان جهنم ، وقد سماه القرآن سورا في قوله فضرب بينهم بسور له باب في سورة الحديد ، وسمي السور حجابا لأنه يقصد منه الحجب والمنع كما سمي سورا باعتبار الإحاطة .

والأعراف : جمع عرف بضم العين وسكون الراء ، وقد تضم الراء أيضا وهو أعلى الشيء ومنه سمي عرف الفرس ، الشعر الذي في أعلى رقبته ، وسمي عرف الديك . الريش الذي في أعلى رأسه .

و ( أل ) في الأعراف للعهد ، وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السور ، ليرقب منها النظارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم . ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتى تعرف بلام العهد ، فتعين أنها ما يعهده الناس في الأسوار ، أو يجعل " أل " عوضا عن المضاف إليه : أي وعلى أعراف السور ، وهما وجهان في نظائر هذا التعريف كقوله تعالى فإن الجنة هي المأوى وأيا ما كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكانا مخصوصا يتعرف منه أهل الجنة وأهل النار ، إذ لا وجه حينئذ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه .

وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنكرة ، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب . قبل أن يدخلوا الجنة ، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار ، ويعرفون رجالا من أهل النار كانوا من أهل العزة والكبرياء في الدنيا ، وكانوا يكذبون وعد الله المؤمنين بالجنة . وليس تخصيص الرجال بالذكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء ، ولا اختصاص هؤلاء الرجال المتحدث [ ص: 142 ] عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرجال ، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر ، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة ، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم ، ولعل توهم أن تخصيص الرجال بالذكر لقصد التقسيم قد أوقع بعض المفسرين في حيرة لتطلب المعنى لأن ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقوا ذلك المكان لأجل حالة لا حظ للنساء فيها ، فبعضهم حمل الرجال على الحقيقة فتطلب عملا يعمله الرجال لا حظ للنساء فيه في الإسلام ، وليس إلا الجهاد ، فقال بعض المفسرين : هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم ، وبعض المفسرين حمل الرجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة ، أطلق عليهم الرجال لأنهم ليسوا إناثا كما أطلق على أشخاص الجن في قوله تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فيظهر وجه لتخصيص الرجال بالذكر تبعا لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها .

وأما ما نقل عن بعض السلف أن أهل الأعراف هم قوم استوت موازين حسناتهم مع موازين سيئاتهم ، ويكون إطلاق الرجال عليهم تغليبا ، لأنه لا بد أن يكون فيهم نساء ، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم تبلغ مبلغ الصحيح ولم تنزل إلى رتبة الضعيف : روى بعضها ابن ماجه ، وبعضها ابن مردويه ، وبعضها الطبري ، فإذا صحت فإن المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنهم لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون ، وليس المراد منها أنهم المقصود من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمل فيها .

والذي ينبغي تفسير الآية به : أن هذه الأعراف جعلها الله مكانا يوقف به من جعله الله من أهل الجنة قبل دخوله إياها ، وذلك ضرب من العقاب خفيف ، فجعل الداخلين إلى الجنة متفاوتين في السبق تفاوتا يعلم الله أسبابه ومقاديره ، وقد قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى . وخص الله [ ص: 143 ] بالحديث في هذه الآيات رجالا من أصحاب الأعراف . ثم يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمة الإسلامية خاصة ، ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم ، وأيا ما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمة المحمدية .

وتنوين كلا عوض عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدم أي كل أهل الجنة وأهل النار .

والسيما بالقصر السمة أي العلامة ، أي بعلامة ميز الله بها أهل الجنة وأهل النار ، وقد تقدم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى تعرفهم بسيماهم في سورة البقرة .

ونداؤهم أهل الجنة بالسلام يؤذن بأنهم في اتصال بعيد من أهل الجنة ، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم ، ويعلمون أنهم صائرون إلى الجنة ، فلذلك حكى الله حالهم هذه للناس إيذانا بذلك وبان طمعهم في قوله لم يدخلوها وهم يطمعون هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه ، فهو من صنف الرجاء كقوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .

و أن تفسير للنداء ، وهو القول سلام عليكم .

و سلام عليكم دعاء تحية وإكرام .

وجملة لم يدخلوها وهم يطمعون مستأنفة للبيان . لأن قوله ونادوا أصحاب الجنة يثير سؤالا يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنة أو إلى غيرها ، وجملة وهم يطمعون حال من ضمير يدخلوها والجملتان معا معترضتان بين جملة ونادوا أصحاب الجنة وجملة وإذا صرفت أبصارهم .

وجملة وإذا صرفت أبصارهم معطوفة على جملة ونادوا أصحاب الجنة .

والصرف : أمر الحال بمغادرة المكان . والصرف هنا مجاز في الالتفات أو استعارة . وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من [ ص: 144 ] الأفعال التي لا يتطلب لها فاعل ، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنهم لا ينظرون إلى أهل النار إلا نظرا شبيها بفعل من يحمله على الفعل حامل ، وذلك أن النفس وإن كانت تكره المناظر السيئة فإن حب الاطلاع يحملها على أن توجه النظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها .

والتلقاء : مكان وجود الشيء ، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللقاء ، لأن محل الوجود ملاق للموجود فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية