الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 122 ] قال : رحمه الله ) بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا قود إلا بالسيف } وهذا تنصيص على نفي وجوب القود واستيفاء القود بغير السيف ، والمراد بالسيف السلاح هكذا فهمت الصحابة رضي الله عنهم من هذا اللفظ حتى قال علي رضي الله عنه العمد السلاح وقال أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه لا قود إلا بسلاح ، وإنما كنى بالسيف عن السلاح ; لأن المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شيء آخر سوى القتال ، وقد يراد بسائر الأسلحة منفعة أخرى سوى القتال ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام { بعثت بالسيف بين يدي الساعة } يعني السلاح الذي هو آلة القتال فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله أن القود لا يجب إلا بالسلاح حتى إذا قتل إنسانا بحجر كبير أو خشبة عظيمة لم يلزمه القصاص في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يلزمه القصاص لقوله تعالى { ، ومن قتل مظلوما ، فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } ، والمراد بالسلطان استيفاء القود بدليل أنه عقبه بالنهي عن الإسراف في القتل ، فالتقييد بكون الآلة جارحة زيادة على النص وفي الحديث أن { يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرضخ رأسه بين حجرين } ، والمعنى فيه أنه عمد محض ; لأنه قصد قتله بما لا يقصد به إلا القتل ولا يعرف محض العمد إلا بهذا .

والآلة الجارحة إذا حصل القتل بها كان عمدا ; لأن ذلك فعل مزهق للروح وما لا تلبث ولا تطيق النفس احتماله في كونه مزهقا للروح أبلغ من الفعل الجارح ; لأن هذا مزهق للروح بنفسه ، والفعل الجارح مزهق للروح بواسطة الجراحة ، والجرح وسيلة يتوسل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه يكون أبلغ مما يكون عاملا بواسطة ، وكذلك من حيث العرف في قصد الناس إلى قتل أعدائهم بإلقاء الأسطوانة ، أو رفع حجر الرحى عليهم يكون أبلغ من القصد إلى ذلك بالجرح في بعض الأعضاء ، فإذا جعل ذلك موجبا للقصاص فهذا أولى ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطإ الدية } وفي حديث الحجاج بن أرطاة { أن رجلا قتل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة فقضى عليه بالدية } ، والمعنى فيه أن هذه الآلة لا تجرح ولا تقطع ، فالقتل بها لا يكون موجبا للقصاص كالقتل بالعصا الصغيرة وتحقيقه من وجهين أحدهما : أن وجوب القصاص يختص بقتل هو عمد [ ص: 123 ] محض .

وصفة التمحض أن يباشر القتل بآلته في محله وآلة القتل هي الآلة الجارحة ; لأن الجرح يعمل في نقض البنية ظاهرا وباطنا وما سواها يدق بنقض البنية باطنا لا ظاهرا وقوام البنية بالظاهر ، والباطن جميعا ، فالقتل الذي هو نقض البنية إذا كان مما يعمل في الظاهر ، والباطن يكون قتلا من كل وجه ، وإن كان مما يعمل في الباطن دون الظاهر يكون قتلا من وجه دون وجه ، والثابت من وجه دون وجه يكون قاصرا في نفسه فيصلح أن يجب به ما يثبت مع الشبهات ولا يصلح أن يجب به ما يندرئ بالشبهات . وما ادعوا من أن الجرح وسيلة يتوسل به إلى إزهاق الروح غلط فإن إزهاق الروح ينقض البنية ، وكمال الجناية مما ينقض البنية من كل وجه ، ونقض البنية بجرح في الروح لا يتأتى ; لأنه لا يحس ويفعل في الجسم ما لا يكون كاملا فإنما الكامل منه ما يكون بفعل في النفس التي بها قوام الآدمي وذلك الفعل الجارح المؤثر في تسييل ، والدليل عليه حكم الذكاة فإن الحل بالذكاة إنما يحصل بفعل جارح مسيل للدم بهذا المعنى ولا يحصل بما يعمل في الجسم فلا يكون ناقضا للبنية ظاهرا ، وهو الفعل الذي يدق ولا فرق بينهما ; لأن الحل مبني على الاحتياط فلا يثبت عند تمكن الشبهة كالقود . ويخرج عليه النار فإنها تعمل في الظاهر ، والباطن جميعا .

وقيل في الذكاة أيضا : إذا قرب النار من مذبح الشاة حتى انقطع بها الأوداج وسال الدم تحل ، وإن لم يسل لا تحل ; لأن ما هو المقصود بالذكاة ، وهو تمييز الطاهر من النجس لم يحصل ، والوجه الأخير أن آلة القتل الحديد قال الله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } ، والمراد القتل ، وكذلك خزائن أسلحة الملوك تكون من الحديد فأما الخشب ، والأحجار فمعدة للأبنية ، والحديد هو المستعمل في القتال ، وإنما ينصب المنجنيق لتخريب الأبنية .

( ألا ترى ) أن الحديد إذا حصل القتل به وجب القصاص صغيرا كان ، أو كبيرا حتى أنه لو غرزه بمسلة ، أو إبرة في مقتله يلزمه القصاص وما سوى الحديد الصغير منه لا يوجب القصاص ، وإن تحقق به القتل ، والفعل لا يتم إلا بآلته فبقصور في الآلة تتمكن شبهة النقصان في الفعل وذلك يمنع وجوب القصاص فعلى هذا الطريق يقول القتل بمثقل الحديد يوجب القصاص نحو ما إذا ضربه بعمود حديد أو بصنجات الميزان ; لأن الحديد في كونه آلة القتل منصوص عليه وفي المنصوص عليه يعتبر عين النص فأما في غير المنصوص عليه ، فالحكم يتعلق بالمعنى فيعتبر كونه محددا نحو سن العصا ، والمروة وليطة القصب ونحو ذلك وعلى الطريق الأول يقول لا يجب القصاص إلا بما هو محدد ، والحديد وغيره فيه سواء ، وهو رواية الطحاوي [ ص: 124 ] في كتاب الشروط . وتأويل الحديث أنه أمر بذلك على طريق السياسة لكونه ساعيا في الأرض بالفساد معروفا بذلك الفعل بيانه فيما روي أنهم أدركوها وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها لا حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم ، وإنما يعد في مثل تلك الحالة من يكون متهما بمثل ذلك معروفا به وعندنا إذا كان بهذه الصفة فللإمام أن يقتله بطريق السياسة فأما الدم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية