الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  غزوة ذات السلاسل وخبر علي ومعاوية

                                                                  9770 عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر وجاء الذين كانوا بأرض الحبشة ، بعث بعثين قبل الشام إلى كلب ، وبلقين ، وغسان ، وكفار العرب الذين في مشارف الشام ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد البعثين أبا عبيدة بن الجراح [ ص: 453 ] - وهو أحد بني فهر - وأمر على البعث الآخر عمرو بن العاص ، فانتدب في بعث أبي عبيدة أبو بكر وعمر ، فلما كان عند خروج البعثين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص فقال لهما : " لا تعاصيا " فلما فصلا عن المدينة جاء أبو عبيدة فقال لعمرو بن العاص : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا أن لا نتعاصيا ، فإما أن تطيعني وإما أن أطيعك فقال عمرو بن العاص : بل أطعني ، فأطاعه أبو عبيدة ، فكان عمرو أمير البعثين كليهما ، فوجد من ذلك عمر بن الخطاب وجدا شديدا ، فكلم أبا عبيدة فقال : أتطيع ابن النابغة ، وتؤمره على نفسك وعلى أبي بكر وعلينا ؟ ما هذا الرأي ؟ فقال أبو عبيدة لعمر بن الخطاب : ابن أم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي وإليه أن لا نتعاصيا ، فخشيت إن لم أطعه ، أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشكي إليه ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بمؤثر بها عليكم إلا بعدكم " - يريد المهاجرين - وكانت تلك [ ص: 454 ] الغزوة تسمى ذات السلاسل ، أسر فيها ناس كثيرة من العرب وسبوا ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أسامة بن زيد وهو غلام شاب ، فانتدب في بعثه عمر بن الخطاب والزبير بن العوام ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يصل ذلك البعث ، فأنفذه أبو بكر الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                  ثم بعث أبو بكر حين ولي الأمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثلاثة أمراء إلى الشام ، وأمر خالد بن سعيد على جند ، وأمر عمرو بن العاص على جند ، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند ، وبعث خالد بن الوليد على جند قبل العراق ، ثم إن عمر كلم أبا بكر ، فلم يزل يكلمه حتى أمر يزيد بن أبي سفيان على خالد بن سعيد وجنده ، وذلك من موجدة وجدها عمر بن الخطاب على خالد بن سعيد حين قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقي علي بن أبي طالب خالد بن سعيد فقال : أغلبتم يا بني عبد مناف على أمركم ؟ فلم يحملها عليه أبو بكر وحملها عليه عمر ، فقال عمر : فإنك لتترك إمرته على الثعالب ، فلما استعمله أبو بكر ذكر ذلك ، فكلم أبا بكر فاستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان ، فأدركه يزيد أميرا بعد أن وصل الشام بذي المروة ، وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد فأمره بالمسير [ ص: 455 ] إلى الشام بجنده ، ففعل ، فكانت الشام على أربعة أمراء حتى توفي أبو بكر . فلما استخلف عمر نزع خالد بن الوليد ، وأمر مكانه أبا عبيدة بن الجراح ، ثم قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل بن حسنة ، وأمر جنده أن يتفرقوا في الأمراء الثلاثة فقال شرحبيل بن حسنة : يا أمير المؤمنين أعجزت أم خنت ؟ قال : لم تعجز ولم تخن قال : ففيم عزلتني ؟ قال : تحرجت أن أؤمرك وأنا أجد أقوى منك قال : فاعذرني يا أمير المؤمنين قال : سأفعل ، ولو علمت غير ذلك لم أفعل قال : فقام عمر فعذره ، ثم أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر وبقي الشام على أميرين : أبي عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان ، ثم توفي أبوعبيدة ، فاستخلف خالدا وابن عمه عياض بن غنم فأقره عمر ، فقيل لعمر : كيف تقر عياض بن غنم وهو رجل جواد لا يمنع شيئا يسأله ؟ وقد نزعت خالد بن الوليد في أن كان يعطي دونك ؟ فقال عمر : إن هذه شيمة عياض في ماله حتى يخلص إلى ماله ، وإني مع ذلك لم أكن لأغير أمرا قضاه أبو عبيدة بن الجراح .

                                                                  قال : ثم توفي يزيد بن أبي سفيان فأمر مكانه معاوية فنعاه [ ص: 456 ] عمر إلى أبي سفيان فقال : احتسب يزيد يا أبا سفيان قال : يرحمه الله ، فمن أمرت مكانه ؟ قال معاوية قال : وصلتك رحم .

                                                                  قال : ثم توفي عياض بن غنم ، فأمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري ، فكانت الشام على معاوية وعمير حتى قتل عمر .

                                                                  فاستخلف عثمان بن عفان ، فعزل عميرا ، وترك الشام لمعاوية ، ونزع المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأمر مكانه سعد بن أبي وقاص ، ونزع عمرو بن العاص عن مصر وأمر مكانه عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ونزع أبا موسى الأشعري وأمر مكانه عبد الله بن عامر بن كريز ، ثم نزع سعد بن أبي وقاص من الكوفة ، وأمر الوليد بن عقبة ، ثم شهد على الوليد فجلده ونزعه ، وأمر سعيد بن العاص مكانه ، ثم قال الناس ونشبوا في الفتنة ، فحج سعيد بن العاص ، ثم قفل من حجه فلقيه خيل العراق ، فرجعوه من العذيب ، وأخرج أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وأقر أهل البصرة عبد الله بن عامر بن كريز ، فكان ذلك أول الفتنة ، حتى إذا قتل عثمان رحمه الله بايع الناس علي بن أبي طالب ، فأرسل إلى طلحة والزبير : إن شئتما فبايعاني ، وإن شئتما بايعت أحدكما ، قالا : بل نبايعك ، ثم هربا إلى مكة ، وبمكة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بما يتكلمان به ، فأعانتهما على رأيهما ، فأطاعهم ناس كثير من قريش ، فخرجوا قبل البصرة يطلبون بدم ابن عفان ، وخرج معهم عبد الرحمن بن أبي [ ص: 457 ] بكر ، وخرج معهم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، وعبد الله بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم في أناس من قريش كلموا أهل البصرة وحدثوهم أن عثمان قتل مظلوما ، وأنهم جاءوا تائبين مما كانوا غلوا به في أمر عثمان ، فأطاعهم عامة أهل البصرة ، واعتزل الأحنف - من تميم - وخرج عبد القيس إلى علي بن أبي طالب بعامة من أطاعه ، وركبت عائشة جملا لها يقال له عسكر ، وهي في هودج قد ألبسته الدفوف - يعني جلود البقر - فقالت : إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني قالت : ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال ، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبدا قالت : فلم يسمع الناس كلامي ، ولم يلتفتوا إلي ، وكان القتال ، فقتل يومئذ سبعون من قريش كلهم يأخذ بخطام جمل عائشة حتى لا يقتل ، ثم حملوا الهودج حتى أدخلوه منزلا من تلك المنازل ، وجرح مروان جراحا شديدة ، وقتل طلحة بن عبيد الله يومئذ ، وقتل الزبير بعد ذلك بوادي السباع ، وقفلت عائشة ومروان بمن بقي من قريش فقدموا المدينة ، وانطلقت عائشة فقدمت مكة ، فكان مروان والأسود بن أبي البختري على المدينة وأهلها يغلبان [ ص: 458 ] عليها ، وهاجت الحرب بين علي [ ومعاوية ] فكانت بعوثهما تقدم مكة للحج ، فأيهما سبق فهو أمير الموسم أيام الحج للناس ، ثم إنها أرسلت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ إلى أم سلمة ] قالت إحداهما للأخرى : تعالي نكتب إلى معاوية وعلي أن يعتقا من هذه البعوث التي تروع الناس ، حتى تجتمع الأمة على أحدهما فقالت أم حبيبة : كفيتك أخي معاوية ، وقالت أم سلمة : كفيتك عليا . فكتبت كل واحدة منهما إلى صاحبها ، وبعثت وفدا من قريش والأنصار ، فأما معاوية فأطاع أم حبيبة ، وأما علي فهم أن يطيع أم سلمة ، فنهاه الحسن بن علي عن ذلك ، فلم يزل بعوثهما وعمالهما يختلفون إلى المدينة ومكة حتى قتل علي رحمه الله تعالى ، ثم اجتمع الناس على معاوية ومروان وابن البختري يغلبان على أهل المدينة في تلك الفتنة ، وكانت مصر في سلطان علي بن أبي طالب ، فأمر عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وكان حامل راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وغيره سعد بن عبادة ، وكان قيس من ذوي الرأي من الناس إلا ما غلب عليه من أمر الفتنة ، فكان معاوية وعمرو بن العاص جاهدين على إخراجه من مصر ويغلبان على مصر ، وكان قد امتنع منهما بالدهاء [ ص: 459 ] والمكيدة ، فلم يقدرا على أن يفتحا مصر حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي . قال : فكان معاوية يحدث رجلا من ذوي الرأي من قريش فيقول : ما ابتدعت من مكيدة قط أعذب عندي من مكيدة كايدت بها قيس بن سعد من قبل علي وهو بالعراق حين امتنع مني قيس ، فقلت لأهل الشام : لا تسبوا قيسا ، ولا تدعوني إلى غزوه ، فإن قيسا لنا شيعة ، تأتينا كتبه ونصيحته ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، ويؤمن سربهم ، ويحسن إلى كل راغب قدم عليه ، فلا نستنكره في نصيحته قال معاوية : وطفقت أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق ، فسمع بذلك من جواسيس علي الذين هدى من أهل العراق ، فلما بلغ ذلك عليا ونماه إليه عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن أبي بكر الصديق ، اتهم قيس بن سعد وكتب إليه بأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف ، فأبى قيس أن يقاتلهم ، وكتب إلى علي أنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم وذوو الحفاظ منهم ، وقد رضوا مني بأن أؤمن سربهم ، وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست [ ص: 460 ] مكايدهم بأمر أهون علي وعليك من أن نفعل ذلك بهم اليوم ، ولو دعوتهم إلى قتالي كانوا قرناهم أسودان لعرب وفيهم بسر بن أرطاة ، ومسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن خديج الخولاني ، فذرني ورأيي فيهم ، وأنا أعلم بما أداري منهم . فأبى عليه علي إلا قتالهم ، فأبى قيس أن يقاتلهم ، وكتب قيس إلى علي : إن كنت تتهمني فاعتزلني عن عملك ، وأرسل إليه غيري ، فأرسل الأشتر أميرا على مصر ، حتى إذا بلغ القلزم شرب بالقلزم شربة من عسل فكان فيها حتفه ، فبلغ ذلك معاوية وعمرو بن العاص فقال عمرو بن العاص : إن لله جنودا من عسل . فلما بلغت عليا وفاة الأشتر بعث محمد بن أبي بكر أميرا على مصر ، فلما حدث به قيس بن سعد قادما أميرا عليه تلقاه فخلا به وناجاه وقال : إنك قد جئت من عند امرئ لا رأي له في الحرب ، وإنه ليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم ، وإني من أمركم على بصيرة ، وإني أدلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرو بن العاص وأهل خربتا فكايدهم به ، فإنك إن كايدتهم بغيره تهلك . فوصف له قيس المكايدة التي كايدهم بها ، فاغتشه محمد بن أبي بكر ، وخالفه في كل شيء أمره به ، فلما قدم محمد بن أبي بكر مصر خرج قيس قبل المدينة فأخافه مروان والأسود بن أبي البختري ، حتى إذا خاف أن يؤخذ ويقتل ركب راحلته ، فظهر إلى

                                                                  [ ص: 461 ] لى علي ، فكتب معاوية إلى مروان والأسود بن أبي البختري يتغيظ عليهما ويقول : أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي ، فقدم قيس بن سعد إلى علي ، فلما بانه الحديث ، وجاءهم قتل محمد بن أبي بكر عرف علي أن قيس بن سعد كان يداري منهم أمورا عظاما من المكايدة التي قصر عنها رأي علي ورأي من كان يؤازره على عزل قيس ، فأطاع علي قيسا في الأمر كله ، وجعله على مقدمة أهل العراق ومن كان بأذربيجان وأرضها ، وعلى شرطة الخمسين الذين انتدبوا للموت ، وبايع أربعون ألفا كانوا بايعوا عليا على الموت ، فلم يزل قيس بن سعد يسد 00000 ذلك الثغر حتى قتل علي .

                                                                  واستخلف أهل العراق الحسن بن علي على الخلافة ، وكان الحسن لا يريد القتال ، ولكنه كان يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ، ثم يدخل في الجماعة ويبايع ، فعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يوافقه على ذلك ، فنزعه وأمر مكانه عبيد الله بن العباس ، فلما عرف عبيد الله بن العباس الذي يريد الحسن أن يأخذ لنفسه ، كتب عبيد الله إلى معاوية يسأله الأمان ، ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب ، فشرط ذلك معاوية [ له ] وبعث إليه [ ص: 462 ] ابن عامر في خيل عظيمة ، فخرج إليهم عبيد الله ليلا ، حتى لحق بهم ، وترك جنده - الذين هو عليهم - لا أمير لهم ، ومعهم قيس بن سعد ، فأمرت شرطة الخمسين قيس بن سعد ، وتعاهدوا وتعاقدوا على قتال معاوية وعمرو بن العاص حتى يشترط لشيعة علي ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم وما أصابوا من الفتنة ، فخلص معاوية حين فرغ من عبيد الله والحسن إلى مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكيدة ، وعنده أربعون ألفا ، فنزل بهم معاوية وعمرو [ و ] أهل الشام أربعين ليلة ، ويرسل معاوية إلى قيس ويذكره الله ويقول : على طاعة من تقاتلني ؟ ويقول : قد بايعني الذي تقاتل على طاعته ، فأبى قيس أن يقر له حتى أرسل معاوية بسجل قد ختم له في أسفله فقال : اكتب في هذا السجل ، فما كتبت فهو لك فقال عمرو لمعاوية : لا تعطه هذا وقاتله ، فقال معاوية - وكان خير الرجلين - : على رسلك يا أبا عبد الله ، فإنا لن نخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام ، فما خير الحياة بعد ذلك ؟ وإني والله لا أقاتله حتى [ لا ] أجد من ذلك بدا ، فلما بعث إليه معاوية بذلك السجل اشترط قيس بن سعد لنفسه ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يسأل معاوية في ذلك مالا ، فأعطاه معاوية ما اشترط [ ص: 463 ] عليه ، ودخل قيس ومن معه في الجماعة . وكان يعد في العرب - حتى ثارت الفتنة الأولى - خمسة يقال لهم : ذوو رأي العرب ومكيدتهم ، يعد من قريش معاوية وعمرو ، ويعد من الأنصار قيس بن سعد ، ويعد من المهاجرين عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، ويعد من ثقيف المغيرة بن شعبة ، فكان مع علي منهم رجلان : قيس بن سعد ، وعبد الله بن بديل ، وكان المغيرة معتزلا بالطائف وأرضها ، فلما حكم الحكمان فاجتمعا بأذرح ، وافاهما المغيرة بن شعبة ، وأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، ووافى رجالا كثيرا من قريش ووافى معاوية بأهل الشام ووافى أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص - وهما الحكمان - وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا ، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي رأي أهل قريش : هل ترون أحدا يقدر على أن يستطيع أن يعلم : أيجتمع هذان الحكمان أم لا ؟ فقالوا له : لا نرى أن أحدا يعلم ذلك قال : فوالله إني لأظنني سأعلمه منهما حين أخلو بهما فأراجعهما . فدخل على عمرو [ ص: 464 ] بن العاص فبدأ به فقال : يا أبا عبد الله ، أخبرني عما أسألك عنه : كيف ترانا معشر المعتزلة ؟ فإنا قد شككنا في هذا الأمر الذي قد تبين لكم في هذا القتال ، ورأينا نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة على رجل فندخل في صالح ما دخلت فيه الأمة ؟ فقال عمرو : أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار ومعشر الفجار فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك حتى دخل على أبي موسى الأشعري ، فخلا به فقال له نحوا مما قال لعمرو ، فقال أبو موسى : أراكم أثبت الناس رأيا ، وأرى فيكم بقية المسلمين . فانصرف فلم يسأله عن غير ذلك قال : فلقي أصحابه الذين قال لهم ما قال من ذوي رأي قريش قال : أقسم لكم لا يجتمع هذان على رجل واحد ، وليدعون كل واحد منهما إلى رأيه .

                                                                  فلما اجتمع الحكمان ، وتكلما خاليين فقال عمرو : يا أبا موسى ، أرأيت أول ما نقضي به في الحق ؟ علينا أن نقضي لأهل الوفاء بالوفاء ، ولأهل الغدر بالغدر ، فقال أبو موسى : وما ذلك ؟ قال : ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا للموعد الذي وعدناهم إياه ؟ فقال : [ ص: 465 ] فاكتبها ، فكتبها أبو موسى ، فقال عمرو : قد أخلصت أنا وأنت أن نسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة ، فسم يا أبا موسى ، فإني أقدر على أن أبايعك منك على أن تبايعني ، فقال أبو موسى : أسمي عبد الله بن عمر بن الخطاب - وكان عبد الله بن عمر فيمن اعتزل - فقال عمرو : فأنا أسمي لك معاوية بن أبي سفيان ، فلم يبرحا من مجلسهما ذلك حتى اختلفا واستبا ، ثم خرجا إلى الناس ، ثم قال أبو موسى : يا أيها الناس ، إني قد وجدت مثل عمرو بن العاص مثل الذي قال الله تبارك وتعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ لعلهم يتفكرون وقال عمرو بن العاص : يا أيها الناس إني وجدت مثل أبي موسى مثل الذي قال الله تبارك وتعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا حتى بلغ الظالمين ثم كتب كل واحد منهما بالمثل الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار .

                                                                  قال الزهري : عن سالم ، عن ابن عمر قال معمر : وأخبرني ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر قال : فقام معاوية عشية فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد ، فمن كان متكلما في هذا الأمر ، فليطلع لي قرنه ، فوالله لا يطلع فيه أحد إلا كنت أحق به منه ومن أبيه - قال : يعرض بعبد الله بن عمر - قال عبد الله بن عمر : " فأطلقت [ ص: 466 ] حبوتي فأردت أن أقوم إليه فأقول : يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام ، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك فيه الدماء ، وأحمل فيه على غير رأي ، فكان ما وعد الله تبارك وتعالى في الجنان أحب إلي من ذلك قال : فلما انطلقت إلى منزلي أتاني حبيب بن مسلمة فقال : ما الذي منعك أن تتكلم حين سمعت الرجل أن يتكلم فقلت له : لقد أردت ذلك ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك فيها الدماء ، وأحمل فيها على غير رأي ، فكان ما وعد الله تبارك وتعالى في الجنان أحب إلي من ذلك كله ، فقال حبيب بن مسلمة لعبد الله بن عمر : فداك أبي وأمي ، فإنك عصمت ، وحفظت مما خفت عرته " .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية