الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 88 ] المقام الثاني وهو " الحد يفيد تصور الأشياء " فنقول : المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته . وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون أتباع أرسطو ; ومن سلك سبيلهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم . فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا . وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني . وأما سائر النظار من جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره . وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم .

                ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعا وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع وعامة الأمم [ ص: 89 ] بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم . وهم إذا تدبروا وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية .

                ثم إن هذه الصناعة الوضعية زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط ولما راموا ذلك لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيا فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم وما ليس كذلك . فأدى ذلك إلى التفريق بين المتماثلات حيث جعلوا صفة ذاتية دون أخرى مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات ممتنع . وبين المتقاربات عسر . فالمطلوب إما متعذر أو متعسر . فإن كان متعذرا بطل بالكلية . وإن كان متعسرا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه على التقديرين فليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان قد يفيد من تمييز المحدود ما تفيده الأسماء .

                وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه أئمة الكلام وقرر في " محصله " وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة . وهذا هو حقيقة قولنا : إن الحد لا يفيد تصور المحدود .

                وهذا " مقام شريف " ينبغي أن يعرف فإنه لسبب إهماله دخل الفساد [ ص: 90 ] في العقول أو الأديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت بها الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى وسائر العلوم : الطب والنحو وغير ذلك وصاروا يعظمون أمر الحدود ويزعمون أنهم هم المحققون لذلك . وأن ما ذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم . ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان . ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يصدها عما لا بد منه . وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعت أنه أصل المعرفة والتحقيق . وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي ينهى عنه السلف خيرا وأحسن من هذا إذ هو كلام في أدلة وأحكام .

                ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما جد في ذلك متأخروهم الذين ظنوا ذلك من التحقيق . وإنما هو زيغ عن سواء الطريق ; ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده وإن ما تفيده كثرة كلام سموهم " أهل الكلام " . وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقيين التي يدعون [ ص: 91 ] أنهم يصورون بها الحقائق فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية