الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ) إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلها معبودا ، فصح نسبته إلى القوم ، وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ، ولذلك قال : رب اغفر لي ولأخي ) ; وقيل : إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وإن كان بمعنى العمل ، كقوله : كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ، أي : عملت وصنعت ، فالمتخذ إنما هو السامري ، واسمه موسى بن ظفر ، من قرية تسمى سامرة ، ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازا ، كما قالوا : بنو تميم قتلوا فلانا ، وإنما قتله واحد منهم ، ولكونهم راضين بذلك ، ومعنى : من بعده من بعد مضيه للمناجاة و من حليهم متعلق بـ اتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حرفي جر بلفظ [ ص: 392 ] واحد ، وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما ; لأن من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، وأجاز أبو البقاء أن يكون : من حليهم في موضع الحال فيتعلق بمحذوف ; لأنه لو تأخر لكان صفة ، أي : عجلا ) كائنا من حليهم . وقرأ الأخوان من : حليهم ) بكسر الحاء إتباعا لحركة اللام ، كما قالوا : عصى ، وهي قراءة أصحاب عبد الله ، ويحيى بن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء ، وهو جمع حلي نحو ثدي وثدي ، ووزنه فعول ، اجتمعت ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها لتصح الياء ، وقرأ يعقوب : من حليهم ) بفتح الحاء وسكون اللام ، وهو مفرد يراد به الجنس ، أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمرة ، وإضافة الحلي إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحر ، فكان كالغنيمة ، ولذلك أمر هارون بجمعه حتى ينظر موسى إذا رجع في أمره ، أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوها عليهم ، فتحيل بنو إسرائيل على استرجاعها إليهم بالعارية ، وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية ، فصحت الإضافة إليهم لأنها تكون بأدنى ملابسة . روى يحيى بن سلام ، عن الحسن : أنهم استعاروا الحلي من القبط لعرس ; وقيل : ليوم زينة ، ولما هلك فرعون وقومه بقي الحلي معهم وكان حراما عليهم ، وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه ، فقال السامري لهارون : إنه عارية وليس لنا ، فأمر هارون مناديا برد العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء ، فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغا ، فصاغ لهم صورة عجل من الحلي ; وقيل : منعهم من رد العارية خوفهم أن يطلع القبط على سراهم ; إذ كان تعالى أمر موسى أن يسري بهم ، والعجل : ولد البقرة القريب الولادة ، ومعنى جسدا ) جثة جمادا ; وقيل : بدنا بلا رأس ذهبا مصمتا ; وقيل : صنعه مجوفا ، قال الزمخشري : جسدا بدنا ذا لحم ودم كسائر الأجساد ، قال الحسن : إن السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل - عليه السلام - يوم قطع البحر فقذفه في في العجل ، فكان عجلا له خوار ، انتهى . وهذا ضعيف ، أعني : كونه لحما ودما ; لأن الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ، ولا يبرد اللحم ، بل كان يقتل ويقطع ، وقال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه ، انتهى ، وظاهر قوله : له خوار يدل على أنه فيه روح ; لأنه لا يخور إلا ما فيه روح ; وقيل : لما صنعه أجوف تحيل لتصويته ، بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار ; وقيل : جعل تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به ، فيسمع صوت من جوفه كالخوار ، وقال الكرماني : جعل في بطن العجل بيتا يفتح ويغلق ، فإذا أراد أن يخور أدخله غلاما يخور بعلامة بينهما إذا أراد ; وقيل : يحتمل أن يكون الله أخاره ليفتن بني إسرائيل ، وخواره قيل : مرة واحدة ولم يثن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ; وقيل : مرارا ، فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رءوسهم ، وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وأبو السمأل وفرقة ( جؤار ) : بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدة صوت وانتصب جسدا ، قال الزمخشري : على البدل ، وقال الحوفي ، على النعت ، وأجازهما أبو البقاء وأن يكون عطف بيان ، وإنما قال : جسدا ; لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطا أو مرقوما في حائط أو حجر أو غير ذلك ، كالتماثيل المصورة بالرقم والخط والدهان والنقش ، فبين تعالى أنه ذو جسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية