الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها عطف النهي عن الفساد في الأرض على جملة إنه لا يحب المعتدين عطفا على طريقة الاعتراض ، فإن الكلام لما أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرفهم بذلك العنوان العظيم في قوله ( ربكم ) ، وعرض لهم بمحبته إياهم دون أعدائهم المعتدين ، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشهوية والغضبية ، فإنهما تجنيان فسادا في الغالب ، فذكرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزها عن أن يخالطه فساد ، فإنهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد ، فأشبه موقع الاحتراس ، وكذلك دأب القرآن أن يعقب الترغيب بالترهيب ، وبالعكس ، لئلا يقع الناس في اليأس أو الأمن .

والاهتمام بدرء الفساد كان مقاما هنا مقتضيا التعجيل بهذا النهي معترضا بين جملتي الأمر بالدعاء .

[ ص: 174 ] وفي إيقاع هذا النهي عقب قوله إنه لا يحب المعتدين تعريض بأن المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض ، وإرباء للمسلمين عن مشابهتهم ، أي لا يليق بكم وأنتم المقربون من ربكم ، المأذون لكم بدعائه ، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين .

والإفساد في الأرض والإصلاح تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون في سورة البقرة ، وبينا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا مما هو نظير ما هنا .

والأرض هنا هي الجسم الكروي المعبر عنه بالدنيا .

والإفساد في كل جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤديا إلى صلاح أعظم مما جره الإفساد من المضرة ، فيترجح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلا به ، فقد قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير ، ونهى أبو بكر - رضي الله - عنه عن قطع شجر العدو ، لاختلاف الأحوال .

والبعدية في قوله بعد إصلاحها بعدية حقيقية ، لأن الأرض خلقت من أول أمرها على صلاح قال الله تعالى وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزز ذلك النظام بقوانين وضعها الله على ألسنة المرسلين والصالحين والحكماء من عباده ، الذين أيدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتوفيق والحكمة ، فعلموا الناس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النافع وإزالة ما في النافع من الضر وتجنب ضر الضار ، فذلك النظام الأصلي ، والقانون المعزز له ، كلاهما [ ص: 175 ] إصلاح في الأرض ، لأن الأول إيجاد الشيء صالحا ، والثاني جعل الضار صالحا بالتهذيب أو بالإزالة ، وقد مضى في قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون في سورة البقرة ، أن الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا . فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غير ذلك النظام فأفسد الصالح ، واستعمل الضار على ضره ، أو استبقي مع إمكان إزالته ، كان إفسادا بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .

والتصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية