الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ولنقتصر على عشرة أمثلة للمصالح المرسلة أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع المصحف ، وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضا ، بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فروي عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال : أرسل إلي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ مقتل ( أهل ) اليمامة ، وإذا عنده عمر ـ رضي الله عنه ـ قال أبو بكر : ( إن عمر أتاني فقال ) : إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قال : فقلت له : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير .

                        فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له ، ورأيت فيه الذي رأى عمر .

                        قال زيد : فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . قال زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي [ ص: 613 ] من ذلك . فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدريهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ، ومن صدور الرجال .

                        فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة .

                        ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان ، فأفزعه اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة : أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك ، فأرسلت حفصة بها إلى عثمان ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم .

                        قال : ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .

                        فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل [ ص: 614 ] فيها في الغالب اختلاف . لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ‌‌ فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان ، وقال : يا أهل العراق ! ويا أهل الكوفة : اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وألقوا إليه بالمصاحف .

                        فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه ، وإنما خالف أمرا آخر ؛ ومع ذلك فقد قال ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                        ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك ، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا ، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة ، والأمر بحفظها معلوم ، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن ، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه .

                        وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها ، إذا خيف عليها الاندراس ، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم .

                        وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا ؛ إلا من النقل [ ص: 615 ] الجلي ؛ كما نقل ابن وضاح ، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ، ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي ، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه ، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين ، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ، فأخذت نفسي بالعناء فيه ، عسى أن ينتفع به واضعه ، وقارؤه ، وناشره ، وكاتبه ، والمنتفع به ، وجميع المسلمين . إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية