الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      فصل الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين ، وجماعة . من الفقهاء ، وجماهير أصحاب الأصول والنظر ، وحكاه الحاكم أبو عبد الله بن البيع عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز . وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه ، وأحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم : يحتج به ، ونقله الغزالي عن الجماهير . قال أبو عمرو بن عبد البر وغيره : ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز ، يرسل عن غير الثقات . ودليلنا في رد المرسل مطلقا أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حاله ، فرواية المرسل أولى ; لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال . ثم إن مرادنا بالمرسل هنا ما انقطع إسناده فسقط من رواته واحد فأكثر ، وخالفنا في حده أكثر المحدثين فقالوا : هو رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشافعي - رحمه الله - : " وأحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى ، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم ، أو وافق قول بعض أصحابه ، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه . قال : ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين ، ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته " هذا نص الشافعي في الرسالة وغيرها ، وكذا نقله عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين ، كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين ، ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره ، هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون . وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا : أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع اللحم بالحيوان } وعن ابن عباس أن جزورا نحرت على [ ص: 101 ] عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بهذه العناق ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا يصلح هذا . قال الشافعي : وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان ، قال الشافعي : وبهذا نأخذ .

                                      قال : ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال الشافعي : " وإرسال ابن المسيب عندنا . حسن " هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه ، لما يترتب عليه من الفوائد . فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي : " إرسال ابن المسيب عندنا حسن " على وجهين حكاهما المصنف الشيخ أبو إسحاق في كتابه اللمع ، وحكاهما أيضا الخطيب البغدادي في كتابيه كتاب " الفقيه والمتفقه " " والكفاية " وحكاهما جماعات آخرون ، أحدهما : معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل .

                                      قالوا : لأنها فتشت فوجدت مسندة ، والوجه الثاني : أنها ليست بحجة عنده ، بل هي كغيرها على ما ذكرناه ، وقالوا : وإنما رجح الشافعي بمرسله ، والترجيح بالمرسل جائز .

                                      وقال الخطيب البغدادي في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) والصواب : الوجه الثاني ، وأما الأول فليس بشيء وكذا قال في الكفاية . الوجه الثاني : هو الصحيح عندنا من الوجهين ; لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح .

                                      قال : وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم ، كما استحسن مرسل سعيد ، هذا كلام الخطيب . وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي نص الشافعي كما قدمته ثم قال : فالشافعي ، يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها ، فإن لم ينضم لم [ ص: 102 ] يقبلها ، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره .

                                      قال : وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ، ومراسيل لغيره قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها ، قال : وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ ، فهذا كلام البيهقي والخطيب ، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان ، مضطلعان من الحديث والفقه والأصول ، والخبرة التامة بنصوص الشافعي . ومعاني كلامه ، ومحلهما من التحقيق والإتقان ، والنهاية في العرفان ، بالغاية القصوى ، والدرجة العليا ، وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي في أول كتابه ( شرح التلخيص ) قال الشافعي في الرهن الصغير : مرسل ابن المسيب عندنا حجة ، فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم .

                                      قلت : ولا يصح تعلق من قال : إن مرسل سعيد حجة بقوله : إرساله حسن ; لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده ، بل اعتمده لما انضم إليه قول أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم ، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة ، وقد نقل صاحب الشامل وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة ، وهو مذهب مالك وغيره .

                                      فهذا عاضد ثان للمرسل ، فلا يلزمه من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد ، فإن قيل : ذكرتم أن المرسل إذا أسند من جهة أخرى احتج به ، وهذا القول فيه تساهل ; لأنه إذا أسند عملنا بالمسند ، فلا فائدة حينئذ في المرسل ولا عمل به .

                                      فالجواب : أن بالمسند يتبين صحة المرسل ، وأنه مما يحتج به ، فيكون في المسألة حديثان صحيحان حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد ، وتعذر الجمع قدمناهما عليه والله أعلم ، هذا كله في غير مرسل الصحابي

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية