الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 683 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة - أعنى سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له عبد الله بن خازم . وقهر عمالها وأخرجهم منها ، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية ، قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي ، وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها ، اكتفينا بذكرها إجمالا ; إذ لا يتعلق بتفصيلها كبير فائدة ، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض ، وبالله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : وفي هذه السنة - بعد موت معاوية بن يزيد - بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه ، وأحبوه حتى إنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود ، ثم نكثوا واختلفوا ، فخرج عنهم سلم ، وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 684 ] وفيها اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة ، وتواعدوا النخيلة ; ليأخذوا بثأر الحسين بن علي ، رضي الله عنه ، وما زالوا في ذلك مجدين ، وعليه عازمين ، من بعد مقتل الحسين بكربلاء في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين ، وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه ، فلما حصل ببلادهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل ، وكان رءوس القائمين في ذلك خمسة ; سليمان بن صرد الصحابي ، والمسيب بن نجبة الفزاري أحد كبار أصحاب علي ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، وكلهم من أصحاب علي ، رضي الله عنه ، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم ، فتعاهدوا وتعاقدوا ، وتواعدوا النخيلة ; أن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين ، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 685 ] وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ، وهو بالمدائن يدعوه إلى ذلك ، فاستجاب له ، ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن فبادروا إليه بالاستجابة والقبول ، وتمالئوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور . وكتب سعد إلى سليمان بذلك ، ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك ، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالئوا عليه ، فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعده بقليل ، طمعوا في الأمر ، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا ، ولم يبق من يقيم لهم أمرا ، فغدوا إلى سليمان ، واستشاروه في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الأجل ، فمنعهم من ذلك حتى يأتي الأجل الذي واعدوا إخوانهم فيه . ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ، ولا يشعر بهم جمهور الناس ، وحينئذ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة ، فأخرجوه من القصر ، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة ، فبايع لعبد الله بن الزبير ، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير ، فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير ; أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي على الحرب والثغر ، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي على الخراج ، وقد كان قدم قبلهما إلى [ ص: 686 ] الكوفة بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد ، وعظموه تعظيما زائدا ، وهم معدون للحرب ، فلما استقر المختار عندهم ، دعا في الباطن إلى إمامة محمد ابن الحنفية ، ولقبه المهدي ، فاتبعه كثير من الشيعة ، وفارقوا سليمان بن صرد وصارت الشيعة فرقتين ; الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس للأخذ بثأر الحسين ، وفرقة أصحاب المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد ابن الحنفية وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه ، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به ، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة ، وجاءت العين الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما ; من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون ، وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ، ويحتاط عليهم ، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة ، فقام خطيبا في الناس ، وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم ، وما أجمعوا عليه من الأمر ، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين ، ولقد علموا أني لست ممن قتله ، وإني والله لممن أصيب بقتله ، رحمه الله ولعن قاتله ، وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر ، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين ، فليعمدوا إلى عبيد الله بن زياد ، . فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله ; فليأخذوا منه بالثأر ; ولا يخرجوا بسيوفهم على أهل بلدهم ، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم . فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال : أيها الناس ، لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن ، إنا والله قد استيقنا أن قوما يريدون الخروج علينا ، [ ص: 687 ] ولنأخذن الوالد بالولد والولد بالوالد ، والحميم بالحميم ، والعريف بما في عرافته ، حتى يدينوا بالحق ويذلوا للطاعة . فوثب إليه المسيب بن نجبة الفزاري فقطع عليه كلامه ، فقال : يابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك ؟ ! أنت والله أذل من ذلك ، إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك ، وإنا لنرجو أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر . وساعد المسيب بن نجبة بعض أصحابه ، ورد عن إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال ، وجرت فتنة وشر كثير في المسجد ، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر ، وحاولوا أن يوقعوا بين الأميرين ، فلم يتفق لهم ذلك ، ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح ، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس ، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة ، فكان من أمرهم ما سنذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى الشيعة من يوم طعن الحسن ، وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق ، فلجأ إلى المدائن ، فأشار المختار على عمه ، وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسن ويبعثه إلى معاوية ، فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء ، فامتنع عمه من ذلك ، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك ، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان ، وقتله ابن زياد ، كان المختار يومئذ بالكوفة ، فبلغ ابن زياد أنه يقول : لأقومن بنصرة مسلم ، ولآخذن بثأره . [ ص: 688 ] فأحضره بين يديه ، وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها ، وأمر بسجنه ، فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه ، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن ، فبعث يزيد إلى ابن زياد أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن أبي عبيد من السجن ، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك ، فأخرجه وقال له : إن وجدتك بالكوفة بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك . فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول : والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد ولأقتلن بالحسين بن علي عدد من قتل على دم يحيى بن زكريا . فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بمكة بايعه المختار بن أبي عبيد ، وكان من كبار الأمراء عنده ، ولما حاصره الحصين بن نمير وأهل الشام قاتل المختار دونه أشد القتال ، فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق ، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر ، وخرج من الحجاز ، فقصد الكوفة فدخلها في يوم جمعة ، والناس يتهيئون للصلاة ، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا سلم ، وقال : أبشروا بالنصر والظفر بالأعداء . ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك ، حتى أقيمت الصلاة ، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر ، ثم انصرف فسلم عليه الناس ، وأقبلوا إليه وعليه وعظموه ، وجعل يدعو إلى إمامه المهدي محمد ابن الحنفية ، ويظهر الانتصار لأهل البيت ، وأنه بصدد أن يقيم شعارهم ، ويظهر منارهم ، ويستوفي ثأرهم ، ويقول للناس الذين قد اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة ، وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان ، فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه ، ويقول لهم : إني [ ص: 689 ] قد جئتكم من قبل ولي الأمر ، ومعدن الفضل ، ووصي الوصي ، والإمام المهدي ، بأمر فيه الشفاء ، وكشف الغطاء ، وقتل الأعداء ، وتمام النعماء ، وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه ، إنما هو عشمة من العشم ، وشن بال ، ليس بذي تجربة للأمور ، ولا له علم بالحروب ، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم ، وإني إنما أعمل على مثل قد مثل لي ، وأمر قد بين لي ، فيه عز وليكم ، وقتل عدوكم ، وشفاء صدوركم ، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري ، ثم أبشروا وتباشروا ، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل . فالتف عليه خلق كثير من الشيعة ، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد ، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن يزيد نائب الكوفة : إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد . فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره ، فأخذه فذهب به إلى السجن مقيدا . وقيل : بغير قيد . فأقام به مدة ومرض فيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو مخنف : فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال : دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده ، فسمعته يقول : أما ورب البحار ، والنخيل والأشجار ، والمهامه والقفار ، والملائكة الأبرار ، والمصطفين الأخيار ، [ ص: 690 ] لأقتلن كل جبار ، بكل لدن خطار ، ومهند بتار ، وجموع من الأنصار ، ليسوا بميل أغمار ، ولا بعزل أشرار ، حتى إذا أقمت عمود الدين ، وجبرت صدع المسلمين ، وشفيت غليل صدور المؤمنين ، وأدركت ثأر أولاد النبيين ، لم أبك على زوال الدنيا ، ولم أحفل بالموت إذا دنا . قال : وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية