الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (7) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8)

                                                                                                                                                                                                                                      انتهى المقطع الأول من السورة بتلك الإيقاعات الثلاثة العميقة، بتلك الحقائق الكبيرة الأصيلة: حقيقة وحدانية الخالق المبدع. وحقيقة الاختصاص بالرحمة. وحقيقة الانفراد بالرزق.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المقطع الثاني يتجه أولا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له، ويرجع الأمر كله إلى الله. ويتجه ثانيا إلى الناس يهتف بهم: إن وعد الله حق، ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق الكبرى، ويذهب بهم إلى السعير - وهو عدوهم الأصيل - ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء المخدوعين بالعدو الأصيل! ويتجه أخيرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى والضلال بيد الله. والله عليم بما يصنعون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2926 ] يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك، وإلى الله ترجع الأمور ..

                                                                                                                                                                                                                                      تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة; فإن يكذبوك فلا عليك من التكذيب، فلست بدعا من الرسل: فقد كذبت رسل من قبلك والأمر كله لله، وإليه ترجع الأمور، وما التبليغ والتكذيب إلا وسائل وأسباب. والعواقب متروكة لله وحده، يدبر أمرها كيف يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهتف بالناس:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس إن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا. إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن وعد الله حق.. إنه آت لا ريب فيه. إنه واقع لا يتخلف. إنه حق والحق لا بد أن يقع، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد. ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع. فلا تغرنكم الحياة الدنيا . ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم ولا يغرنكم بالله الغرور .. والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم فاتخذوه عدوا لا تركنوا إليه، ولا تتخذوه ناصحا لكم، ولا تتبعوا خطاه، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة: إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟!

                                                                                                                                                                                                                                      إنها لمسة وجدانية صادقة. فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات. يتحفز لدفع الغواية والإغراء; ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير. حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية; كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان. حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفز ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان، وحالة المؤمنين الذين طاردوه:

                                                                                                                                                                                                                                      الذين كفروا لهم عذاب شديد. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله; ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه:

                                                                                                                                                                                                                                      أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ... ؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو مفتاح الشر كله.. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسنا. أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها. ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، لأنه واثق من أنه لا يخطئ! متأكد أنه دائما على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته. لا يخطر على باله أن يراجع [ ص: 2927 ] نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر. وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه. لأنه حسن في عين نفسه. مزين لنفسه وحسه. لا مجال فيه للنقد، ولا موضع فيه للنقصان!

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان; وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال. فإلى البوار!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب. فلا يأمن مكر الله. ولا يأمن تقلب القلب. ولا يأمن الخطأ والزلل. ولا يأمن النقص والعجز. فهو دائم التفتيش في عمله. دائم الحساب لنفسه. دائم الحذر من الشيطان. دائم التطلع لعون الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار.

                                                                                                                                                                                                                                      إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة:

                                                                                                                                                                                                                                      أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير. ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين. هو هذا الغرور. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق. ولا يحسن عملا لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء. ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطئ! ولا يصلح فاسدا لأنه مستيقن أنه لا يفسد! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح!

                                                                                                                                                                                                                                      إنه باب الشر. ونافذة السوء. ومفتاح الضلال الأخير..

                                                                                                                                                                                                                                      ويدع السؤال بلا جواب.. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟ .. ليشمل كل جواب. كأن يقال: أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟ أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟ .. إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال. وهو أسلوب كثير التردد في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكأنما يقول: إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة; مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله; وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال!

                                                                                                                                                                                                                                      فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء; بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا. طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء. وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى.. وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال.

                                                                                                                                                                                                                                      وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا الشأن. شأن الهدى والضلال. ليس من أمر بشر. ولو كان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من أمر الله. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. وهو مقلب القلوب والأبصار.. والله - سبحانه - يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له. حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم، ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال. وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم، ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفا بينهم! وهو حرص بشري معروف. يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه، فيبين له أن هذا ليس من أمره، إنما هو من أمر الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير. ورأوا الناس [ ص: 2928 ] في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون; ولا يرون ما فيها من الخير والجمال. ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال. وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله - سبحانه - رسوله. فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد. ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله عليم بما يصنعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم. والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم; ويعلمها بعد أن تكون. وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي. ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون.

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة. وهو متصل بالمقطع الأول. ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية