الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 84 ] ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) .

                          بينا في تفسير الآية ( 90 ) أن هذه السورة افتتحت بآيات من أحكام الحلال والحرام في الطعام وأحكام النسك ( ومنها الصيد في أرض الحرام أو في حال الإحرام ) وتلاها سياق طويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم ، ثم عاد الكلام إلى شيء من تفصيل تلك الأحكام إلخ ، ونقول الآن إن الله جلت آلاؤه نهى عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات ومن الاعتداء فيها وفي غيرها ، وأمرهم بأكل الحلال والطيب ، ولما كان بعض المبالغين في النسك قد حلفوا على ترك بعض الطيبات بين لهم بهذه المناسبة كفارة الأيمان ، ثم بين لهم تحريم الخمر والميسر لأنها من أخبث الخبائث ، فكان هذا وذاك متمما لما في أول السورة من أحكام الطعام والشراب ، وناسب أن يتمم أحكام الصيد في الحرم والإحرام أيضا فجاءت هذه الآيات في ذلك .

                          وقال الرازي في مناسبة هذا لما قبله ما نصه : ووجه النظم أنه تعالى كما قال : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ( 5 : 87 ) ثم استثنى الخمر والميسر من تلك فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات وبين دخولهم في المحرمات انتهى وما قلناه خير [ ص: 85 ] منه وأصح ، وليس الخمر والميسر من الطيبات فيستثنيان منها بل هما رجس خبيث .

                          ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) الابتلاء : الاختبار ، والصيد مصدر أطلق على ما يصطاد من حيوان البحر مطلقا ومن حيوانات البر الوحشية لتؤكل ، وقيل مطلقا فيدخل فيه غير المأكول لحمه إلا ما أبيح قتله كما يأتي وتقدم تفصيل الكلام في الصيد في تفسير أول السورة ، وسيأتي في تفسير الآية التالية الخلاف فيما يكفر به المحرم عن صيده ووصف الصيد بكونه تناله الأيدي والرماح يراد به كثرته وسهولة أخذه ، وإمكان الاستخفاء بالتمتع به ، وروي عن ابن عباس ومجاهد : أنه ما يؤخذ بالأيدي صغاره وفراخه وبالرماح كباره ، وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية : فكان الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .

                          ووجه الابتلاء بذلك أن الصيد ألذ الطعام وأطيبه ، وناهيك باستطابته وبشدة الحاجة إليه في السفر الطويل كالسفر بين الحرمين ، وسهولة تناول اللذيذ تغري به ، فترك ما لا ينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله تعالى كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة ، وقد قيل : إن من العصمة ألا نجد ، وهل يعد ترك الزنا ممن لا يصل إليه إلا بسعي وبذل مال وتوقع فضيحة كترك يوسف الصديق له إذ غلقت امرأة العزيز الأبواب دونه وقالت : هيت لك ؟

                          والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إن الله تعالى يقسم بأنه سيختبركم بإرسال شيء كثير من الصيد أو ببعض من أنواعه يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم ( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) أي يبتليكم به وأنتم محرمون ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء ولا خائف من إنكارهم ، فيترك أخذ شيء من الصيد ويختار شظف العيش على لذة اللحم خوفا من الله تعالى وطاعة له في سره ، أو يخافه حال كونه متلبسا بالإيمان بالغيب الذي يقتضي الطاعة في السر والجهر ، فإذا وقع ذلك منكم علمه الله تعالى لأن علمه يتعلق بالواقع الثابت ، ويترتب على علمه به رضاه عنكم وإثباتكم عليه كما يعلم حال من يعتدي فيه ، وقد بين جزاءه في الجملة الآتية ، فدل ذلك على ما حذف من جزاء من يخافه ، والمشهور أن المراد بمثل هذا التعبير أنه تعالى يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب ، لأن هذا من ضروب تربيته لكم وعنايته بتزكيتكم ، وقد تقدم تفسير مثل هذا التعليل بعلم الله تعالى ( راجع ص7 ج2 وص142 ج4 وما بعدهما ط الهيئة ) .

                          ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) أي فمن اعتدى بأخذ شيء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان والإعلام الذي أخبركم الله به قبل وقوعه فله عذاب شديد الألم في [ ص: 86 ] الآخرة قيل : وفي الدنيا بالتعزير والضرب لأنه لم يبال باختبار الله له ، بل سجل على نفسه أنه لا يخاف الله تعالى بالغيب ، ولكنه قد يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم إذ هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ، وهذا شأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ، لا شأن المؤمنين الصادقين الأبرار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية