الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 14 ) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ( 15 ) وعلامات وبالنجم هم يهتدون ( 16 ) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ( 17 ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ( 18 ) )

يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم ، وتيسيره للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها ، في الحل والإحرام وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره ، أي : تشقه .

وقيل : تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح بجؤجئها وهو صدرها المسنم - الذي أرشد العباد إلى صنعتها ، وهداهم إلى ذلك ، إرثا عن أبيهم نوح - عليه السلام - فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، وبلد إلى بلد ، وإقليم إلى إقليم ، تجلب ما هنا إلى هنالك ، وما هنالك إلى هنا ; ولهذا قال تعالى : ( ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) أي : نعمه وإحسانه .

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن [ عمر ، عن ] سهيل بن أبى صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رفعه ] قال : كلم الله هذا البحر الغربي ، وكلم البحر الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال : أغرقهم . فقال : بأسك في نواحيك . وأحملهم على يدي . وحرمه الحلية والصيد . وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فما أنت صانع بهم ؟ فقال : أحملهم على يدي ، وأكون لهم كالوالدة لولدها . فأثابه الحلية والصيد . [ ص: 563 ]

ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهيل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر وهو منكر الحديث . وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمرو موقوفا .

ثم ذكر تعالى الأرض ، وما جعل فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات ، لتقر الأرض ولا تميد أي : تضطرب بما عليها من الحيوان فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ; ولهذا قال : ( والجبال أرساها ) [ النازعات : 32 ] .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن قتادة ، سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد ، فقالوا ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، لم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .

وقال سعيد عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عبادة : أن الله تعالى لما خلق الأرض ، جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب ، تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم يترجرج . .

وقوله : ( وأنهارا وسبلا ) أي : وجعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى مكان آخر ، رزقا للعباد ، ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري والقفار ، ويخترق الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله . وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة ، وجنوبا وشمالا وشرقا وغربا ، ما بين صغار وكبار ، وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت ، وما بين نبع وجمع ، [ ص: 564 ] وقوي السير وبطيئه ، بحسب ما أراد وقدر ، وسخر ويسر فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه .

وكذلك جعل فيها سبلا أي : طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد ، حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا ، كما قال تعالى : ( وجعلنا فيها فجاجا سبلا ) [ الأنبياء : 31 ] .

وقوله : ( وعلامات ) أي : دلائل من جبال كبار وآكام صغار ، ونحو ذلك ، يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطريق [ بالنهار ] .

وقوله : ( وبالنجم هم يهتدون ) أي : في ظلام الليل ، قاله ابن عباس .

وعن مالك في قوله : ( وعلامات ) يقولون : النجوم ، وهي الجبال .

ثم قال تعالى منبها على عظمته ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان ، التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ; ولهذا قال : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون )

ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، فقال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) أي : يتجاوز عنكم ، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ، ويجازي على اليسير .

وقال ابن جرير : يقول : ( إن الله لغفور رحيم ) لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك ، إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، ( رحيم ) بكم أن يعذبكم ، [ أي ] : بعد الإنابة والتوبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية