الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وليس هذا موضع تفصيل ذلك، ولم يكن هذا الموضع موضع كلام في مسألة خلق الله للعالم وإبداعه إياه، وإنما [ ص: 214 ] المقصود تمثيل من يقول إنه في كل مكان، بمن يقول إنه مقارن للوجود، وأن كلا القولين في الحقيقة يوجب افتقاره إلى المخلوقات، ويمنع أن يكون واجب الوجود، وأن أصحاب هذه الأقوال، وإن قالوا مع ذلك هو مباين للعالم وفوقه، أو قالوا هو قبل العالم ومتقدم عليه؛ فلا حقيقة لكلامهم؛ بل قولهم صريح في معنى ذلك والتكذيب به، ومن قال منهم ليس بداخل العالم ولا بخارجه فهو كمن قال لا قبل العالم ولا معه، وكل من هؤلاء ينازع في أنه رب العالمين وخالقه، وفي أنه إله العالم المعبود لا يثبتون حقيقة ربوبيته ولا حقيقة إلهيته؛ بل هم مشركون به وجاحدون معطلون؛ وإن كان جهمية المتفلسفة أشد إشراكا وجحودا من جهمية المتكلمين؛ لكون هؤلاء أقرب إلى دين المرسلين الذين جاءوا بالحق المبين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [الصافات: 180-182].

وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم بقدم العالم يوجب القول بقدم جميع الحوادث، وذلك مخالف للمشاهدة، وأنهم إذا قالوا: هو علة تامة، امتنع أن يحدث عنه شيء بواسطة أو بغير واسطة؛ فإن الواسطة إذا كانت قديمة لزم قدم معلولها، وإن كانت محدثة فالقول في حدوثها كالقول في حدوث ما يحدث عنها.

[ ص: 215 ] الفصل الثاني: فيما نفوه عن الرب تعالى من التقدم بالزمان، وما نفوه من تقدم العدم على الوجود بالزمان، وقولهم مع من وافقهم من المتكلمين ليس تقدم الرب على العالم زمانا.

فنقول: التقدم المعقول الحقيقي: إما أن يكون بالزمان فقط، أو يكون بغير الزمان، أو يكون بالزمان وبغير الزمان، أو لا يكون بالزمان ولا بغيره، أما الأول فلا ريب أن الأقدمين من الآدميين كالآباء متقدمون على المتأخرين منهم بالزمان، وإذا حقق التقدم بالزمان كان معناه أن الأولين قارنوا الزمان المتقدم على زمان هؤلاء، فالتقدم والتأخر هو في الزمانين وفي أهل الزمانين؛ لكن تقدم الزمان يعرف بقدم أهله، كما يعرف تقدمه بتقدم أهله، وتأخر الزمان يعرف بتأخر أهله، كما يعرف تأخره بتأخر أهله؛ إذ كل من الزمان وأهله متقارنان، فتقدم أحدهما تقدم قرينه، وتأخره تأخر قرينه، وذلك يعرف في الأيام بطلوع الشمس وغروبها، وفي الأشهر بالأهلة، وفي السنين بالعدد، كما في الأسابيع، هذه شريعة المسلمين، ولبقية الأمم في ذلك سنين أخرى منهم من يجعل الشهور عددية، والسنة طبيعية كحركة الشمس، وإن كانت حركة الشمس في البرج المعين [ ص: 216 ] لا يرى؛ وإنما يعلم بالحساب، وهذه سنة من ليس من أهل الكتاب كالروم والفرس وغيرهم، ومنهم من يجمع بين الأمرين، وهذه سنة من بدل وغير من أهل الكتاب، كما يفعل اليهود والنصارى. وقد تكلمنا على هذا مبسوطا في غير هذا الموضع.

وأما الأسبوع فليس له سبب مرئي بالاتفاق، وإنما سببه سمعي، وهو ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وقد شرع الله لأهل الكتب من المسلمين واليهود والنصارى الاجتماع في كل أسبوع لذكر الله وعبادته، وفي ذلك حفظ أيام الأسبوع الذي يذكر فيه خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، وانقضاء ذلك في اليوم السابع، ولهذا لا توجد أيام الأسبوع إلا في لغة من تلقى ذلك عن أهل الكتاب كالفرس، أما الترك / الأعراب مثل التتار ونحوهم، فليس في لغتهم لهذه الأيام ذكر؛ لأنه لا يعلم سببها بالرؤية، ولا علم لهم بذلك من جهة السمع، لبعدهم عن ديار العلم والإيمان.

وأما ما يعلم بالرؤية، فقد قال تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [البقرة: 189] وقال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض [التوبة: 36] [ ص: 217 ] وقال تعالى: فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم [الأنعام: 96] وقال تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [يونس: 5] وقال تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [يس: 37-40]، ونحو هذا من القرآن في مواضع، فلا ريب أنه مما يشاهده الناس من نور الشمس والقمر تتوقت الأوقات، ويتميز آخر الزمان بعضه من بعض، ويعلم بذلك عدد السنين والحساب، الذي به يعرف المتقدم والمتأخر، فإذا قيل إن هذا متقدم بالزمان كان معناه أن تقدمه متقدم لتقدم الزمان، وأن تقدمه عرف بتقدم الزمان لا يراد بذلك أن تقدمه هو بسبب تقدم الزمان؛ إذ ليس جعل تقدم الزمان سببا لتقدمه بأولى من جعل تقدمه سببا لتقدم الزمان، وذلك أن اليوم المعين يحدث فيه طلوع الشمس والقمر، وكذلك طلوع الكواكب وغير ذلك من الحركات، ومن [ ص: 218 ] ذلك ما هو فلك الشمس والقمر، ومنه ما هو تحت فلك الشمس والقمر وجميع ذلك، يقال فيه إنه زماني، وإن كان تقدم الزمان وتأخره إنما يعرف بما يرى من الأنوار، كالشمس والقمر التي بها تتوقت الأوقات.

التالي السابق


الخدمات العلمية