الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والتيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بضربتين أو أكثر ، والدليل عليه ما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال { التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين } " . وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال في القديم : التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين ، ووجهه في حديث عمار ، وأنكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله ذلك وقال : المنصوص في القديم والجديد هو الأول ، ووجهه أنه عضو في التيمم فوجب استيعابه كالوجه ، وحديث عمار يتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث ابن عمر فسيأتي بيانه إن شاء الله ، وأما حديث أبي أمامة فمنكر لا أصل له ، واسم أبي أمامة صدي بضم الصاد [ ص: 243 ] وفتح الدال المهملة وتشديد الياء ابن عجلان الباهلي من بني باهلة ، سكن حمص رضي الله عنه وابن عمر تقدم بيانه في الآنية ، والشيخ أبو حامد في مسح الخف والعضو بكسر العين وضمها ، وقوله : ولأنه عضو في التيمم احترز ( بعضو ) عن مسح الخف و ( بالتيمم ) عن مسح الرأس في الوضوء .

                                      ( وأما حكم المسألة ) فمذهبنا المشهور أن التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين مع المرفقين ، فإن حصل استيعاب الوجه واليدين بالضربتين وإلا وجبت الزيادة حتى يحصل الاستيعاب . وحكى أبو ثور وغيره قولا للشافعي في القديم أنه يكفي مسح الوجه والكفين ; وأنكر أبو حامد والماوردي وغيرهما هذا القول وقالوا : لم يذكره الشافعي في القديم ، وهذا الإنكار فاسد ، فإن أبا ثور من خواص أصحاب الشافعي وثقاتهم وأئمتهم فنقله عنه مقبول ، وإذا لم يوجد في القديم حمل على أنه سمعه منه مشافهة وهذا القول وإن كان قديما مرجوحا عند الأصحاب فهو القوي في الدليل وهو الأقرب إلى ظاهر السنة الصحيحة . وقال كثيرون من الخراسانيين : لا يشترط ضربتان ، بل الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين . سواء حصل بضربتين أو ضربة ، وسيأتي بيان هذا في واجبات التيمم إن شاء الله تعالى ، هذا تلخيص مذهبنا .

                                      وحكى ابن المنذر وجوب الضربتين عن علي بن أبي طالب وابن عمر والحسن البصري والشعبي وسالم بن عبد الله ومالك والليث والثوري وأصحاب الرأي ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، قال أصحابنا : وهو قول أكثر العلماء . وحكى الماوردي وغيره عن ابن سيرين أنه لا يجزئه إلا ثلاث ضربات : ضربة لوجهه ، وضربة لكفيه ، وضربة لذراعيه . وقال آخرون : الواجب ضربة للوجه والكفين ، حكاه ابن المنذر عن عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق . قال ابن المنذر : وبه أقول وبه قال داود ، وحكاه الخطابي عن عامة أصحاب الحديث . وأما قدر الواجب من اليدين فالمشهور من مذهبنا أنه إلى المرفقين كما سبق وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر العلماء ، وقال عطاء ومن بعده ممن [ ص: 244 ] ذكرناه : إلى الكفين ، وحكى الماوردي وغيره عن الزهري أنه يجب مسحهما إلى الإبطين ، وما أظن هذا يصح عنه ، وقد قال الخطابي : لم يختلف العلماء في أنه لا يجب مسح ما وراء المرفقين .

                                      واحتج من قال : ضربة للوجه والكفين بحديث عمار قال : { أجنبت فتمعكت في التراب وصليت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ، فنفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه } " رواه البخاري ومسلم . واحتج أصحابنا بأشياء كثيرة لا يظهر الاحتجاج بها فتركتها ، وأقربها أن الله تعالى أمر بغسل اليد إلى المرفق في الوضوء ، وقال في آخر الآية : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } وظاهره أن المراد الموصوفة أولا وهي المرفق . وهذا المطلق محمول على ذلك المقيد ، لا سيما وهي آية واحدة ، ذكر الشافعي رحمه الله هذا الدليل بعبارة أخرى ، فقال كلاما معناه أن الله تعالى أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية . فبقي العضوان في التيمم على ما ذكرا في الوضوء ، إذ لو اختلفا لبينهما ، وقد أجمع المسلمون على أن الوجه يستوعب في التيمم كالوضوء فكذا اليدان . قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار : قال الشافعي رحمه الله : إنما منعنا أن نأخذ رواية عمار في الوجه والكفين ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح وجهه وذراعيه ، وأن هذا أشبه بالقرآن .

                                      والقياس أن البدل من الشيء يكون مثله ، قال البيهقي : حديث عمار أثبت من مسح الذراعين ، إلا أن حديث الذراعين جيد بشواهده ، ورواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين } وعن أبي جهيم الأنصاري قال : { أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام } " رواه البخاري هكذا مسندا وذكره مسلم تعليقا ، وهو مجمل فسره ابن عمر في روايته قال : { مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد [ ص: 245 ] خرج من غائط أو بول ، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكة ضرب بيديه على الجدار ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام وقال : إني لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر } " هكذا رواه أبو داود في سننه إلا أنه من رواية محمد بن ثابت العبدي وليس هو بالقوي عند أكثر أهل الحديث ، وروى البيهقي في حديث أبي الجهيم فمسح وجهه وذراعيه ، رواه من طرق يعضد بعضها بعضا ، قال : وله شاهد من حديث ابن عمر ، فذكر حديثه هذا . قال البيهقي : وهذا الحديث رواه عن العبدي جماعة من الأئمة وذكرهم . قال : وأنكر البخاري على العبدي رفع هذا الحديث . قال البيهقي : ورفعه غير منكر ، فقد صح رفعه من جهة الضحاك بن عثمان ويزيد بن عبد الله بن أسامة ، وإنما انفرد العبدي فيه بذكر الذراعين .

                                      قال البيهقي : وقد صح عن ابن عمر من قوله وفعله التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ، فقوله وفعله . يشهد لصحة رواية العبدي ، فإنه لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه . قال الشافعي والبيهقي : أخذنا بحديث مسح الذراعين لأنه موافق لظاهر القرآن وللقياس وأحوط . قال الخطابي : الاقتصار على الكفين أصح في الرواية ، ووجوب الذراعين أشبه بالأصول وأصح في القياس ; والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية