الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ( اختار ) افتعل من الخير ، وهو التخير والانتقاء : واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر ، وهي مقصورة على السماع ، وهي : اختار واستغفر وأمر وكنى ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فيقول : اخترت زيدا من الرجال ، واخترت زيدا الرجال . قال الشاعر :


اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واعتل من كان يرجى عنده السول



[ ص: 399 ] أي اخترتك من الناس و : سبعين هو المفعول الأول ، و : قومه هو المفعول الثاني ، وتقديره : من قومه ومن أعرب : قومه مفعولا أول ، و سبعين بدلا منه بدل بعض من كل وحذف الضمير ، أي : سبعين رجلا منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان ، وهو المختار منه ، فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه ، واختلفوا في هذا الميقات : أهو ميقات المناجاة ونزول التوراة أو غيره ؟ فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس وهو الأول بين فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف اثنان : فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا ، فقال : من قعد فله أجر من حضر ، فقعد كالب بن يوقنا ، ويوشع بن نون ، واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه ، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا فدنوا ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم ، فقالوا : ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .

قال الزمخشري : فقال : رب أرني أنظر إليك يريد أن يسمعوا الرد والإنكار من جهته ، فأجيب : بلن تراني ، ورجف الجبل بهم وصعقوا ، انتهى ; وقيل : هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة ، فقال وهب بن منبه : قال بنو إسرائيل لموسى : إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا ، فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ، ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة ، وقال السدي : هو ميقات وقته الله تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل ، وقال ابن عباس فيما روى عنه علي بن طلحة : هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربهم فدعوا ، فقالوا : يا الله أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ولا أحدا بعدنا ، فكره الله ذلك فأخذتهم الرجفة ، وعن علي رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير ، فقام عليه هارون فقبض روحه ، فرجع موسى إلى قومه ، فقالوا : أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه ، فقال : كيف أقتله ومعي ابناه ، قال : فاختاروا من شئتم ، فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا : من قتلك يا هارون ؟ قال : ما قتلني أحد ولكن الله توفاني ، قالوا : يا موسى ما نعصي بعد ، فأخذتهم الرجفة فجعلوا يتردون يمينا وشمالا ، انتهى ، ولفظ : لميقاتنا في هذا القول الذي روي عن علي ; لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى ، وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه ، والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل فيه : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما ; إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكا وصعق موسى ، وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرجفة ولم تأخذ موسى ، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية