الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) .

                          هذه الآية تتمة السياق السابق ، وقد ذكر الله تعالى فيه أن جزاء الصيد يكون هديا بالغ الكعبة ، وأريد بالكعبة هنالك حرمها وجوارها الذي تؤدى فيه المناسك كما تقدم ، ثم ذكر الكعبة وأراد بها عينها ولذلك بينها بالبيت الحرام وذكر الهدي أيضا .

                          وقال الرازي : اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم ، فبين أي هنا أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخافات ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة اه .

                          ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) الجعل هنا إما خلقي تكويني وهو التصيير ، وإما أمري تكليفي وهو التشريع ، وسيأتي توجيه كل منها ، ( والكعبة ) في اللغة البيت المكعب أي المربع ، وقيل : المرتفع من كعب الرمح وهو طرف الأنبوب الناشز ، أو كعب الرجل وهو الناتئ عند مفصل الساق ، ومنه كعبت الجارية ( البنت ) وكعب ثديها يكعب إذا نتأ وارتفع فهي كاعب وكعاب ، وثدي كاعب والأول أصح ، وقد غلب اسم الكعبة على بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام بمكة أم القرى في جزيرة العرب ، وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة ( ج1 ) وتفسير آل عمران ( ج4 ) قال مجاهد : إنما سميت الكعبة لأنها مربعة ، وقال عكرمة : إنما سميت الكعبة لتربيعها ، و ( القيام ) أصله القوام بالواو فقلبت الواو [ ص: 99 ] ياء لانكسار ما قبلها كالميزان ، والمراد به ما يقوم به أمر الناس ويتحقق أو يستقيم ويصلح ، وقرأ ابن عامر " قيما " بكسر القاف وفتح الياء ، وهو بمعنى " قياما " وقد تقدم مثله في أول سورة النساء ( والشهر الحرام ) ذو الحجة الذي تؤدى فيه مناسك الحج في تلك المعاهد المقدسة ، وقيل : المراد به جنس الأشهر الحرم التي كانوا يتركون فيها القتال ، ( والهدي ) ما يهدى إلى الحرم من الأنعام للتوسعة على فقرائه ، ( والقلائد ) هنا ذات القلائد من الهدي وهي الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا ، خصها بالذكر لعظم شأنها ، وقيل : هي على معناه الأصلي ، وهو ما يقلد به الهدي من النبات ، وكذا ما كان يتقلد به مريدو الحج والراجعون منه إلى بلادهم ليأمنوا على أنفسهم في عهد الجاهلية ، وتقدم تفصيل القول في ذلك أول السورة .

                          والمعنى على الوجه الأول في الجعل : أن الله تعالى جعل الكعبة التي هي البيت الحرام قياما للناس الذين يقيمون بجوارها والذين يحجونها ، أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم بإيداع تعظيمها في القلوب ، وجذب الأفئدة إليها ، وصرف الناس عن الاعتداء فيها وعلى مجاوريها وحجابها ، وتسخيرهم لجلب الأرزاق إليها ، فهذا هو الجعل الخلقي التكويني ، ويؤيده دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم الذي حكاه الله تعالى عنه بقوله : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) ( 14 : 37 ) وفي معناه قوله تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ( 28 : 57 ) وقوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم 29 : 67 ) .

                          والمعنى على الوجه الثاني : أنه جعلها قياما للناس في أمر دينهم المهذب لأخلاقهم المزكي لأنفسهم ، بما فرض عليهم من الحج الذي هو من أعظم أركان الدين لأنه عبادة روحية بدنية مالية اجتماعية وتقدم بيان بعض حكمه وسيأتي لها مزيد إن شاء الله تعالى وما شرع في مناسك الحج من الصدقات والذبائح التي تطهر فاعلها من رذيلة البخل وتحببه إلى الفقراء وتحبب إليه الفقراء والمساكين ، ويتسع بها رزق أهل الحرم ، وهذا هو الجعل الأمري التشريعي ، دع ما تستلزمه كثرة الناس هناك من جلب الأرزاق وعروض التجارة التي تقوم بها أمور المعيشة .

                          روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر القيام هنا بقوله : قياما لدينهم ومعالم لحجهم ، وفي رواية أخرى عنه قال : قيامها أن يأمن من توجه إليها .

                          [ ص: 100 ] وروي عن سعيد بن جبير فيه ثلاث أقوال : ( 1 ) صلاح لدينهم ( 2 ) شدة لدينهم ( 3 ) عصمة في أمر دينهم ، فهذه أقوال من جعل القيام دينا فقط ، وإنما هو ديني دنيوي ، لأن أهل الحرم وحجاجه ما كانوا ليجدوا فيه ما يعيشونه به من الغذاء ، وما يأمنون به على أنفسهم الهلاك ، لولا أن جعل الله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما لأمر المعيشة ، كما جعلها قياما لأمر الدين ، ولكن خص بعضهم القيام الدنيوي بزمن الجاهلية .

                          وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد قال : كان الناس فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض به والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد ، ويلقى الرجل قاتل أبيه وابن عمه فلا يعرض له وهذا كله قد نسخ .

                          وروى ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى ، لا يخاف بعضهم بعضا حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام .

                          وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) قال : حواجز أبقاها الله في الجاهلية بين الناس ، فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب ، كان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه ، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه ، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناس ، وكان إذا نفر ( أي عاد من الحج ) تقلد قلادة من الخز أو من السمر حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية اه .

                          والمختار أن جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس هو جعل تكويني تشريعي معا ، وهو عام شامل لما تقوم به وتتحقق مصالح دينهم ودنياهم ، وشامل لزمن الجاهلية وعهد الإسلام ، لكن له في كل من العهدين صورة خاصة به ففي عهد الجاهلية كان التكويني أظهر والتشريعي أخفى ، لأنهم على إضاعتهم لشريعة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم إلا قليلا من مناسك الحج مزجوها بالوثنية والخرافات الوضعية ، وكانت آيات الله تعالى [ ص: 101 ] التكوينية ظاهرة فيهم كما تقدم بيانه آنفا ، وسبق ما في معناه في سورة آل عمران ، وأما في عهد الإسلام فالتشريعي أظهر .

                          ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) أي فعل ذلك الجعل لأجل أن تعلموا منه إذا تأملتم فيه أنه تعالى يعلم ما في العالم العلوي والسفلي ، وأن علمه محيط بكل شيء ، وذلك أنه عز وجل جعل في قلوب العرب في طور جاهليتها وغفلتها وتفانيها في الغزو والسلب والنهب تعظيما لهذا المكان ، وللأعمال التي تعمل فيه ، وللزمن الذي فيه تؤدى هذه الأعمال هنالك ، منعهم من اعتداء بعضهم على بعض ، وكان سببا لحقن الدماء وسعة الرزق ، وقد عجزت جميع أممهم عن الحضارة والمدنية في القديم والحديث بله أمم البداوة عن تأمين الناس في قطر من الأقطار ، وزمن معين من كل سنة بحيث لا يمكن أن يقع فيهما قتال ولا قتل ولا عدوان ، وكذلك جعل في أحكام الحج ومناسكه أعظم الفوائد والمنافع الروحية والجسدية والدينية والدنيوية كما علم مما مر آنفا بالإجمال ، مما بيناه في غير هذا المكان من حكم الحج بالتفصيل ، وقد ثبتت هذه المنافع والفوائد التي عليها مدار قيام أمر الناس ثبوتا قطعيا بالمشاهدة والتجربة ، فدل ما ذكر على أن جعل البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس ، لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها ، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك ، وأنه عليم بكل شيء فلا يخفى عليه خافية ، على أن آياته الدالة على علمه بما في السماوات والأرض ، وبغير ذلك أعم وأظهر في نظر العقل من جعله بعض الأمكنة والأزمنة سببا لدفع الشقاوة عن كثير من الناس وجلب السعادة والهناءة لهم ، فإن سنته تعالى في الفلك وسير الشمس والقمر وغيرهما بحسبان ، وفي علم الجماد والنبات والحيوان ، لا يعتريها من الشبهات ما يعتري السنن المتعلقة بنوع الإنسان ، ولكن الناس يغفلون عنها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية