الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب لعلكم تفلحون ) . [ ص: 102 ] أرشدنا جل شأنه في الآية التي قبل هذه إلى بعض آيات علمه في خلقه وأمره وأرشدنا في هذه إلى العلم بأن العليم بكل شيء الذي ظهرت آيات علمه وحكمته في خلق السماوات والأرض ، كما ظهرت في جعل البيت الحرام قياما للناس لا يمكن أن يجعل الذين اجترحوا السيئات ، كالذين آمنوا وعلموا الصالحات ، ولا يسوي بين الطيب والخبيث كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلح والمفسد ، والمظلوم والظالم ، فلا بد إذن من الجزاء بالحق ، ولا يملك الجزاء إلا من يقدر على العقاب الشديد ، وعلى المغفرة والرحمة ، لذلك قال : ( اعلموا أن الله شديد العقاب ) لمن دنس نفسه بالشرك والفسوق والعصيان ( وأن الله غفور رحيم ) لمن زكى نفسه بالأعمال الصالحة مع التوحيد والإيمان ، فلا يؤاخذه بما سلف قبل الإيمان ، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة والإصلاح ، ولا باللمم ، إلا اجتناب كبائر الإثم والفواحش ، بل يستر ذنبه ويمحوه فيضمحل في إيمانه وعمله الصالح ، كما يستر القذر القليل ، ويضمحل بما يغمره من الماء الكثير ، ويخصه فوق ذلك برحمة منه ورضوان .

                          فالآية متضمنة للترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، فهي وعيد لمن كفر وتولى عن العمل بكتاب الله ، ووعد لمن آمن به وعمل الصالحات ، وقد تقدم تفسير المغفرة والرحمة في كثير من الآيات ، ولعل في تقديم ذكر العقاب وتأخير ذكر المغفرة والرحمة إشارة إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة فلا يدوم ، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ثبت في الحديث الصحيح ، ولذلك يغفر كثيرا من ظلم الناس لأنفسهم ( ويعفو عن كثير ) ( 42 : 30 ) وأعاد اسم الجلالة في مقام الإضمار للدلالة على أن مغفرته ورحمته ثابتان له بالأصالة .

                          ( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) هذا بيان لوظيفة الرسول في إثر بيان كون الجزاء بيد الله العليم بكل شيء ، وهي أن الرسول من حيث هو رسول الله ليس عليه إلا تبليغ رسالة من أرسله ، فهو لا يعلم جميع ما يبديه المكلفون من الأعمال والأقوال وما يكتمونه منها ، فيكون أهلا لحسابهم وجزائهم على أعمالهم ، وإنما يعلم ذلك الله وحده ، وفيه إبطال لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والرجاء فيها ، والتماس الخلاص والنجاة من عذاب الآخرة بشفاعتها ، فهو يقول بصيغة الحصر : " ما على الرسول إلا البلاغ والبيان لدين الله وشرعه ، فبذلك تبرأ ذمته ، ويكون من بلغهم هم المسئولون عند الله تعالى ، والله وحده هو الذي يعلم ما تبدون وما تكتمون من عقائدكم وأقوالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها ، بحسب علمه المحيط بكل ذرة منها ، فيكون جزاءه حقا وعدلا ويزيد المحسنين كرما منه وفضلا ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) . [ ص: 103 ] فلا تطلبوا سعادتكم إلا من أنفسكم ، ولا تخافوا عليها إلا منها .

                          ويؤيد تفسيرنا هذا قوله في سورة الرعد : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) ( 13 : 40 ) وقوله في سورة الأنعام ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) ( 6 : 48 51 ) .

                          وأما الشفاعة الواردة في الأحاديث فلا تناقض الشفاعة المنفية هنا وفي آيات أخرى لأنها عبارة عن دعاء مستجاب في الآخرة يظهر الله عليه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما في كتابه تكريما للداعي الشفيع من غير أن يكون مؤثرا في علم الله ولا في إرادته لأن الحادث لا يؤثر في القديم ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ( 57 : 3 ) .

                          ثم إنه تعالى لما بين الجزاء وكونه منوطا بالأعمال ، أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من وصف الأعمال والعاملين لها ، فأثبت وجود حقيقتين متضادتين يترتب على كل منها ما يليق بها ، وهما حقيقة الطيب وحقيقة الخبيث ، فقال : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) أي قل أيها الرسول مخاطبا كل فرد من أفراد أمة الدعوة : لا يستوي الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال كالضار والنافع والفاسد والصالح ، والحرام والحلال ولا من الناس كالظالم والعادل والجاهل والعالم والمفسد والمصلح ، والبر والفاجر والمؤمن والكافر ، فلكل من الخبيث والطيب في القسم الأول حكم يليق به عند الله تعالى ، ولكل منهما في القسم الآخر جزاء ومكان يستحقه بحسب صفته ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) ( 6 : 139 ) يضع كل شيء في موضعه بحسب علمه ، ولعل نكتة تقديم الخبيث في الذكر كون السياق للإهتمام بإزالة شبهة المغترين بكثرته ، ولذلك قال : ( ولو أعجبك كثرة الخبيث ) الخطاب من الرسول لكل مكلف بلغته دعوته كما تقدم ، أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس وجاههم ، أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها ، كأكل الربا والرشوة والغلو والخيانة ، أو لدعوى أصحابها أنها دليل على [ ص: 104 ] حب الله لهم ورضاه عنهم إذ فضلهم بها على غيرهم ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) .

                          أي لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك فصرت بعيدا عن إدراك حقيقة الأمر ، وهي أن القليل من الحلال كراتب الحاكم العادل وربح التاجر الصادق خير من كثير الحرام كالرشوة والخيانة ، باعتبار حسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، كأن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته ، بل ربما يضر آكله ويفسد عليه معدته .

                          كذلك القليل الطيب من الناس خير من الكثير الخبيث ، فالفئة القليلة من أهل الشجاعة والثبات والإيمان تغلب الفئة الكثيرة من ذوي الجبن والتخاذل والشرك ، وإن أفرادا من أولي البصيرة والرأي ، ليأتون بما يعجز عنه الجماعات من أهل الغباوة والخرق ، والعالم الحكيم يسخر لخدمته ألوف من الجاهلين ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ( 39 : 9 ) .

                          كان المشركون يفخرون على المؤمنين في صدر الإسلام بكثرتهم ويعتزون بها ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا ) ( 34 : 35 ) فضرب الله تعالى لهم مثل الكافر الذي فاخر المؤمن بقوله : ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) ( 18 : 34 ) وكيف كانت عاقبة أمره خسرا وقال لهم : ( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) ( 8 : 19 ) ثم قال للمؤمنين تثبيتا لهم حتى لا تروعهم كثرة المشركين في عددهم وعددهم : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ) ( 8 : 26 ) وجاءت هذه الآية بالقاعدة العامة وهي أن العبرة بصفة الشيء لا بعدده ، وإنما تكون العزة بالكثرة بعد التساوي في الصفات .

                          ولما كان من دأب أهل الغفلة والجهل والغرور بالكثرة مطلقا ، قال تعالى تعقيبا على ما أثبته من تفضيل الطيب على الخبيث وإن كثر الخبيث : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) أي فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ولا بكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين ، فإن تقوى الله تعالى هي التي تنظمكم في سلك الطيبين ، فيرجى لكم أن تكونوا من المفلحين ، أي فائزين بخير الدنيا والآخرة .

                          وإنما خص أولي الألباب بالذكر في عجز الآية بعد مخاطبة كل مكلف في صدرها لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها ، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها ، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث بعد التنبيه والتذكير ، وأما الأغرار والغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر [ ص: 105 ] والاعتبار بالتجارب والحكم ، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر ، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام ، ولا من عواقب الأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام ، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا ، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا ( والعاقبة للمتقين ) .

                          وروي عن السدي أن المراد بالخبيث هنا المشركون وبالطيب المؤمنون ، ويروى عن أبي هريرة قال : " لدرهم حلال أتصدق به أحب إلي من مائة ألف درهم حرام فإن شئتم فاقرءوا كتاب الله : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الإسكندراني قال : كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر فكتب إليه عمر : " إن الله يقول : ( لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ) فإن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بمنزلة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل ، ولا قوة إلا بالله ) .

                          فهذه الآية قاعدة في التشريع وبرهان للقياس الصحيح وأصل للأدب والتهذيب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية