الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسينا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وكان ممن هرب [ ص: 20 ] لقصده شمر بن ذي الجوشن - قبحه الله - فبعث المختار في أثره غلاما له يقال له : زربي . فلما دنا منه قال شمر لأصحابه : تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم قد هربتم وتركتموني حتى يطمع في هذا العلج . فساقوا وتأخر شمر فأدركه زربي فعطف عليه شمر ، فدق ظهره فقتله ، وسار شمر وتركه ، وكتب كتابا إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه ، ووفادته إليه ، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة ، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها الكلتانية عند نهر إلى جانب تل هناك ، فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال له : إلى أين تذهب ؟ قال : إلى مصعب . قال ممن ؟ قال من شمر . فقال : اذهب معي إلى سيدي . وإذا سيده أبو عمرة أمير حرس المختار ، وهو قد ركب في طلب شمر ، فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة ، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك فقال لهم : هذا كله فرق من الكذاب ، والله لا أرتحل من هاهنا إلى ثلاثة أيام حتى أملأ قلوبهم رعبا ، فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم ، وثار إليهم شمر بن ذي الجوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان ، ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفا وهو يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 21 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نبهتم ليث عرين باسلا جهما محياه يدق الكاهلا     لم ير يوما عن عدو ناكلا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلا كذا مقاتلا أو قاتلا     يبرحهم ضربا ويروي العاملا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل ، فلما سمع أصحابه ، وهم منهزمون صوت التكبير وقول أصحاب المختار : الله أكبر قتل الخبيث . عرفوا أنه قد قتل ، قبحه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو مخنف ، عن يونس بن أبي إسحاق قال : ولما خرج المختار من جبانة السبيع ، وأقبل إلى القصر - يعني منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلى صوته ، وكان في الأسرى :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      امنن علي اليوم يا خير معد     وخير من حل بشحر والجند
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخير من لبى وصام وسجد



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فبعثه إلى السجن ، فاعتقله ليلة ، ثم أطلقه من الغد ، فأقبل إلى المختار ، وهو يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 22 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا أخبر أبا إسحاق أنا     نزونا نزوة كانت علينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا     وكان خروجنا بطرا وحينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نراهم في مصافهم قليلا     وهم مثل الدبا حين التقينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      برزنا إذ رأيناهم فلما     رأينا القوم قد برزوا إلينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأينا منهم ضربا وطحنا     وطعنا صائبا حتى انثنينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نصرت على عدوك كل يوم     بكل كتيبة تنعى حسينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كنصر محمد في يوم بدر     ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا     لجرنا في الحكومة واعتدينا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تقبل توبة مني فإني     سأشكر إذ جعلت النقد دينا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض ، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة ، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك . فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك ، فلما نزل خلا به المختار ، فقال له : إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة ، وإنما أردت [ ص: 23 ] بقولك هذا أني لا أقتلك ، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لا تفسد علي أصحابي . فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا أبلغ أبا إسحاق أني     رأيت البلق دهما مصمتات
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كفرت بوحيكم وجعلت نذرا     علي قتالكم حتى الممات
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأت عيناي ما لم تبصراه     كلانا عالم بالترهات
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا قالوا أقول لهم كذبتم     وإن خرجوا لبست لهم أداتي



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على تتبع من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها ، فقال : ما ديننا ترك قوم قتلوا حسينا يمشون في الدنيا أحياء آمنين ، بئس ناصر آل محمد ، إني إذا كذاب كما سميتموني أنتم ، فإني بالله أستعين عليهم ، فالحمد لله الذي جعلني سيفا أضربهم ، ورمحا أطعنهم ، وطالب وترهم ، والقائم بحقهم ، وإنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم ، وأن يذل من جهل حقهم ، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم ، فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض [ ص: 24 ] منهم ، وأنفي من في المصر منهم ، ثم جعل يتتبع من في الكوفة منهم وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه ، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا ، ومنهم من حرقه بالنار ، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات ، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت ، فأتوه بمالك بن بشير ، فقال له المختار : أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه ؟ فقال : خرجنا ونحن كارهون ، فامنن علينا . فقال : اقطعوا يديه ورجليه . ففعلوا به ذلك ، ثم تركوه يضطرب حتى مات ، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية