الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا موسى الكتاب : شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم؛ وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به؛ والمراد بالكتاب: التوراة؛ عن ابن عباس - رضي الله (تعالى) عنهما - أن التوراة لما نزلت جملة واحدة أمر الله (تعالى) موسى - عليه السلام - بحملها؛ فلم يطق بذلك؛ فبعث الله بكل حرف منها ملكا؛ فلم يطيقوا بحملها؛ فخففها الله (تعالى) لموسى - عليه السلام - فحملها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقفينا من بعده بالرسل : يقال: "قفاه به"؛ إذا [ ص: 127 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أتبعه إياه؛ أي: أرسلناهم على أثره؛ كقوله (تعالى): ثم أرسلنا رسلنا تترى ؛ وهم: يوشع؛ وأشمويل؛ وشمعون؛ وداود؛ وسليمان؛ وشعيا؛ وأرميا؛ وعزير؛ وحزقيل؛ وإلياس؛ واليسع؛ ويونس؛ وزكريا؛ ويحيى؛ وغيرهم - عليهم الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وآتينا عيسى ابن مريم البينات ؛ المعجزات الواضحات من إحياء الموتى؛ وإبراء الأكمه والأبرص؛ والإخبار بالمغيبات؛ أو الإنجيل؛ و"عيسى" بالسريانية: "إيشوع"؛ ومعناه: المبارك؛ و"مريم": بمعنى "الخادم"؛ وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال؛ وبه فسر قول رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      قلت لزير لم تصله مريمه ... ضليل أهواء الصبا تندمه



                                                                                                                                                                                                                                      ووزنه "مفعل"؛ إذ لم يثبت "فعيل"؛ وأيدناه ؛ أي: قويناه؛ وقرئ: "وآيدناه"؛ بروح القدس ؛ بضم الدال؛ وقرئ بسكونها؛ أي: بالروح المقدسة؛ وهي روح عيسى - عليه السلام -؛ كقولك: "حاتم الجود"؛ و"رجل صدق"؛ وإنما وصفت بالقدس لكرامته؛ أو لأنه - عليه السلام - لم تضمه الأصلاب؛ ولا أرحام الطوامث؛ وقيل: بجبريل - عليه السلام -؛ وقيل: بالإنجيل؛ كما قيل في القرآن: روحا من أمرنا ؛ وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره. وتخصيصه من بين الرسل - عليهم السلام - بالذكر؛ ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات؛ والتأييد بروح القدس؛ لما أن بعثتهم كانت لتنفيذ أحكام التوراة؛ وتقريرها؛ وأما عيسى - عليه السلام - فقد نسخ بشرعه كثير من أحكامها؛ ولحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه - عليه السلام - ببيان حقيته؛ وإظهار كمال قبح ما فعلوا به - عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      أفكلما جاءكم رسول ؛ من أولئك الرسل؛ بما لا تهوى أنفسكم ؛ من الحق الذي لا محيد عنه؛ أي: لا تحبه؛ من "هوي"؛ كـ "فرح"؛ إذا أحب؛ والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم؛ والموافقة لها؛ لا شيء آخر؛ وتوسيط الهمزة بين الفاء؛ وما تعلقت به من الأفعال السابقة؛ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا؛ وللتعجيب من شأنهم؛ ويجوز كون الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام؛ أي: ألم تطيعوهم؛ فكلما جاءكم رسول منهم بما لا تهوى أنفسكم؛ استكبرتم عن الاتباع له؛ والإيمان بما جاء به من عند الله (تعالى)؟ ففريقا ؛ منهم؛ كذبتم ؛ من غير أن تتعرضوا لهم بشيء آخر من المضار؛ والفاء للسببية؛ أو للتعقيب؛ وفريقا ؛ آخر منهم؛ تقتلون ؛ غير مكتفين بتكذيبهم؛ كزكريا ويحيى؛ وغيرهما - عليهم السلام -؛ وتقديم "فريقا" في الموضعين للاهتمام؛ وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم؛ لا للقصر؛ وإيثار صيغة الاستقبال في القتل لاستحضار صورته الهائلة؛ أو للإيماء إلى أنهم بعد على تلك النية؛ حيث هموا بما لم ينالوه من جهته - عليه السلام -؛ وسحروه؛ وسمموا له الشاة؛ حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني؛ فهذا أوان قطعت أبهري".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية