الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        23 - الحديث الثاني : عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال { شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه : أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا } .

                                        التالي السابق


                                        " الشيء " المشار إليه : هي الحركة التي يظن أنها حدث ، والحديث أصل [ ص: 120 ] في إعمال الأصل ، وطرح الشك ، وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة ، لكنهم يختلفون في كيفية استعمالها ، مثاله : هذه المسألة التي دل عليها الحديث ، وهي " من شك في الحدث بعد سبق الطهارة " فالشافعي أعمل الأصل السابق ، وهو الطهارة ، وطرح الشك الطارئ ، وأجاز الصلاة في هذه الحالة ، ومالك منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة ، وكأنه أعمل الأصل الأول ، وهو ترتب الصلاة في الذمة ، ورأى أن لا يزال إلا بطهارة متيقنة .

                                        وهذا الحديث ظاهر في إعمال الطهارة الأولى ، وإطراح الشك ، والقائلون بهذا اختلفوا ، فالشافعي اطرح الشك مطلقا ، وبعض المالكية اطرحه بشرط أن يكون في الصلاة ، وهذا له وجه حسن ، فإن القاعدة : أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم ، فالأصل يقتضي اعتباره ، وعدم إطراحه .

                                        وهذا الحديث يدل على إطراح الشك إذا وجد في الصلاة ، وكونه موجودا في الصلاة : معنى يمكن أن يكون معتبرا ، فإن الدخول في الصلاة مانع من إبطالها ، على ما اقتضاه استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } فصارت صحة الصلاة أصلا سابقا على حالة الشك ، مانعا من الإبطال ، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع ، وصحة العمل ظاهرا : معنى يناسب عدم الالتفات إلى الشك ، يمكن اعتباره .

                                        فلا ينبغي إلغاؤه ، ومن أصحاب مالك من قيد هذا الحكم - أعني إطراح هذا الشك - بقيد آخر ، وهو أن يكون الشك في سبب حاضر ، كما جاء في الحديث ، حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته الحاضر لم تبح له الصلاة ، ومأخذ هذا : ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه التي ينبغي اعتبارها ، ومورد النص : اشتمل على هذا الوصف ، وهو كونه شك في سبب حاضر ، فلا يلحق به ما ليس في معناه ، من الشك في سبب متقدم ، إلا أن هذا القول أضعف قليلا من الأول ; لأن صحة العمل ظاهرة ، وانعقاد الصلاة : سبب مانع مناسب لإطراح الشك ، وأما كون السبب ناجزا : فإما غير مناسب ، أو مناسب مناسبة ضعيفة [ ص: 121 ]

                                        والذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل : أن يرى أن الأصل الأول - وهو ترتب الصلاة في ذمته - معمول به ، فلا يخرج عنه إلا بما ورد فيه النص ، وما بقي يعمل فيه بالأصل ، ولا يحتاج في المحل الذي خرج عن الأصل بالنص إلى مناسبة ، كما في صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل ، أعني أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خرج عن الأصل أو القياس ، من غير اعتبار مناسبة ، وسببه : أن إعمال النص في مورده لا بد منه ، والعمل بالأصل أو القياس المطرد : مسترسل ، لا يخرج عنه إلا بقدر الضرورة ، ولا ضرورة فيما زاد على مورد النص ، ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده ، سواء كان مناسبا أو لا ، وهذا يحتاج معه إلى إلغاء وصف كونه في صلاة ، ويمكن هذا القائل منع ذلك بوجهين .

                                        أحدهما : أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض الروايات ، وهو أن يكون الشك لمن هو في المسجد ، وكونه في المسجد أعم من كونه في الصلاة ، فيؤخذ من هذا إلغاء ذلك القيد الذي اعتبره القائل الآخر ، وهو كونه في الصلاة ، ويبقى كونه شاكا في سبب ناجز ، إلا أن القائل الأول له أن يحمل كونه في المسجد على كونه في الصلاة ، فإن الحضور في المسجد يراد للصلاة ، فقد يلازمها فيعبر به عنها ، وهذا - وإن كان مجازا - إلا أنه يقوى إذا اعتبر الحديث الأول وكان حديثا واحدا مخرجه من جهة واحدة ، فحينئذ يكون ذلك الاختلاف اختلافا في عبارة الراوي بتفسير أحد اللفظين بالآخر ، ويرجع إلى أن المراد : كونه في الصلاة .

                                        الثاني : وهو أقوى من الأول - ما ورد في الحديث { إن الشيطان ينفخ بين أليتي الرجل } وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإلغاء الشك ، وإنما أوردنا هذه المباحث ليتلمح الناظر مأخذ العلماء في أقوالهم ، فيرى ما ينبغي ترجيحه فيرجحه ، وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه ، والشافعي رحمه الله ألغى القيدين معا - أعني كونه في الصلاة ، وكونه في سبب ناجز - واعتبر أصل الطهارة .




                                        الخدمات العلمية