الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض [ ص: 403 ] لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون التعزير ، قال يونس بن حبيب : التعزير هو الثناء والمدح . الانبجاس العرق . قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت ، وانفجرت سالت ، وقال الواحدي : الانبجاس الانفجار ، يقال : بجس وانبجس ، الحوت معروف يجمع في القلة على أحوات ، وفي الكثرة على حيتان ، وهو قياس مطرد في فعل واوي العين ، نحو عود وأعواد وعيدان .

الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر هذا من بقية خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - وفيه تبشير له ببعثة محمد ، وذكر لصفاته ، وإعلام له أيضا أنه ينزل كتابا يسمى الإنجيل ، ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقادا وقولا وفعلا ، وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفا من النبوة ، أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي ، والملك أعم فبدئ به ، والأمي الذي هو على صفة أمة العرب " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ ، قاله الزجاج ، وكونه أميا من جملة المعجز ; وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ : الأمي ، بفتح الهمزة ، وخرج على أنه من تغيير النسب ، والأصل الضم ، كما قيل في النسب إلى أمية : أموي ، بالفتح ، أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ، ومعناه المقصود ، أي : لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة ، فهو منسوب إليها ، لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ، ومعنى يجدونه ، أي : يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : في التوراة ، أي : سأقيم له نبيا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ، ويقول لهم كلما أوصيته ، وفيها : وأما النبي فقد باركت عليه جدا جدا ، وسأدخره لأمة عظيمة ، وفي الإنجيل : يعطيكم الفارقليط آخر ، يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ، ويحتمل أن يكون يأمرهم بالمعروف إلى آخره متعلقا بـ يجدونه ، فيكون في موضع الحال على سبيل التجوز فيكون حالا مقدرة ، ويحتمل أن يكون من وصف النبي ، كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو علي : يأمرهم : تفسير لما كتب من ذكره ، كقوله : خلقه من تراب ، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في يجدونه ; لأن الضمير للذكر والاسم ، والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : يأمرهم بالمعروف ، أي : بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ; وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشرع ، والمنكر : قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشرك ; وقيل : الباطل ; وقيل : الفساد ومبادئ الأخلاق ; وقيل : القول في صفات الله بغير علم ، والكفر بما أنزل ، وقطع الرحم والعقوق .

ويحل لهم الطيبات تقدم ذكر الخلاف في الطيبات [ ص: 404 ] في قوله : كلوا من طيبات أهي الحلال أو المستلذ ، وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشري : ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة ، واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وما خلا كسبه من السحت ، انتهى ; وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحللات ، لتقديره ويحل لهم المحللات ، قال : وهذا محض التكذيب ، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحل لنا وكم هو ، قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع ؛ لأن تناولها يفيد اللذة ، والأصل في المنافع الحل ، فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل .

ويحرم عليهم الخبائث قيل : المحرمات ; وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ; وقيل : الدم والميتة ولحم الخنزير ، وعن ابن عباس : ما في سورة المائدة إلى قوله : ذلكم فسق .

ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قرأ طلحة : ويذهب عنهم إصرهم ، وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرئ : أصرهم ، بفتح الهمزة وبضمها ، فمن جمع فباعتبار متعلقات الإصر ; إذ هي كثيرة ، ومن وحد فلأنه اسم جنس ، والأغلال مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة ، كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتما من القاتل - عمدا كان أو خطأ - ، وترك الاشتغال يوم السبت ، وتحريم العروق في اللحم ، وعن عطاء : أن بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى - عليه السلام - رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه ، وهذا المثل كما قالوا : جعلت هذا طوقا في عنقك ، وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي :


وليس كهذا الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل     فصار الفتى كالكهل ليس بقابل
سوى العدل شيئا واستراح العواذل



وليس ثم سلاسل ، وإنما أراد أن الإسلام ألزمه أمورا لم يكن ملتزما لها قبل ذلك ، كما قال : الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيد : الأغلال ، يريد في قوله : غلت أيديهم فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها .

فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وعزروه أثنوا عليه ومدحوه . قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدو ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد : وعززوه ، بزايين والنور : القرآن ، قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة . وقيل : ( مع ) بمعنى عليه ، أي : الذي أنزل عليه . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : أنزل مع نبوته ; لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به ، وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف أنزل ، ويجوز عندي أن يكون ( معه ) ظرفا في موضع الحال ، فالعامل فيه محذوف ، تقديره : أنزل كائنا معه ، وهي حال مقدرة ، كقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد ، كما أن الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يعلق بـ اتبعوا ، أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ، أي : واتبعوا القرآن ، كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه ، وفي قوله : فالذين آمنوا به إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول ، كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين .

التالي السابق


الخدمات العلمية