الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى

هذا استئناف إخبار عن أمر موسى ، وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدث فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره، وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى عليه السلام على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله تعالى حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآية: الجراد والقمل إلى آخرها، وكلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر في الليل ساريا، و "السرى": سير الليل، و "أن" في قوله تعالى: [ ص: 114 ] أن أسر يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب، كقوله تعالى: وانطلق الملأ منهم أن امشوا ، ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال، وتكون في موضع نصب بـ "أوحينا". وقوله: "بعبادي" إضافة تشريف لبني إسرائيل، وكل الخلق عباد الله، ولكن هذا كقوله تعالى: ونفخت فيه من روحي .

وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليه السلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حليا وثيابا. ويروى أن موسى عليه السلام أذن لهم في ذلك وقال لهم: إن الله سينفلكموها، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رأيه، وهو الأشبه به صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك، ويروى أن بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر، فأعجلهم موسى عليه السلام في الخروج، فطبخوه فطيرا، فهي سنتهم في ذلك الوقت من العام إلى هلم، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم ، فاتصل الخبر بفرعون ، فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه، فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر، فجزع بنو إسرائيل، رأوا أن العدو من ورائهم والبحر أمامهم، و موسى عليه السلام يثق بصنع الله تعالى. فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم، وكان مقصدهم إلى موضع تنقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة. واختلف الناس في عدد جند فرعون فقيل: كان في خيله سبعون ألف أدهم، ونسبة ذلك من سائر الألوان، وقيل أكثر من هذا مما اختصرته لقلة صحته، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر. ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدما بمصر ، وهو ظاهر الآية، ويروى أنه إنما أوحى إليه بذلك في موطن وقوعه. واتصل الكلام في هذه الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض، فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة، طرقا واسعة بينها حيطان ماء واقف، فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست، ودخل بنو [ ص: 115 ] إسرائيل، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر، فرأى الماء على تلك الحال، فجزع قومه واستعظموا الأمر، فقال لهم لعنه الله: إنما انفلق لي من هيبتي، وها هنا كمال إضلاله لهم، وحمله الله على الدخول، وجاء جبريل عليه السلام راكبا على فرس أنثى فأتبعها فرس فرعون ، وتابعه الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم، وسمع بنو إسرائيل انطباق الماء وهم قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا، فأخبرهم موسى عليه السلام أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه، فطلبوا مصداق ذلك فلفظ البحر الناس، وألقى الله تعالى فرعون على نجوة من الأرض بدرعه المعروفة له.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها، وقد مضى أمر فرعون بأوعب من هذا في موضع اقتضاه.

وقوله تعالى: "يبسا" مصدر وصف به، وقرأ بعض الناس: "يابسا"، وأشار إلى ذكره الزجاج ، وقرأ حمزة وحده: "لا تخف" إما على جواب الأمر، وإما على نهي مستأنف، وقرأ الجمهور : "لا تخاف" وذلك على أن يكون حالا من موسى عليه السلام ، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير: لا تخاف فيه، أي يكون بهذه الصفة، ومعنى هذا القول: لا تخاف دركا من فرعون وجنوده، ولا تخشى غرقا من البحر. وقرأ أبو عمرو - فيما روي عنه -: "فاتبعهم" بتشديد التاء، وتبع واتبع إنما يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: شويت واشتويت، وفديت وافتديت، وحفرت واحتفرت. وقوله: "بجنوده"، إما أن تكون الباء مع ما جر بها في موضع الحال، كما تقول: خرج زيد بسلاحه، وإما أن يكون لتعدي الفعل إلى مفعول ثان إذ لا يتعدى دون حرف جر إلا إلى واحد. وقرأ الجمهور : "فأتبعهم" بسكون التاء، وهذا يتعدى إلى مفعولين، فالباء - على هذا - إما زائدة، والتقدير: فأتبعهم فرعون جنده، وإما أن تكون باء الحال، ويكون المفعول الثاني مقدرا، كأنك قلت: رؤساءه أو عزمه، ونحو هذا، والأول أظهر. وقرأت فرقة: "فغشيهم"، وقرأت فرقة: "فغشاهم الله". وقوله: ما [ ص: 116 ] غشيهم إيهام أهول من النص على قدر ما، وهذا كقوله تعالى: إذ يغشى السدرة ما يغشى .

وقوله تعالى: وأضل فرعون قومه يريد: من أول أمره إلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله: "وما هدى" مقابلة لقول فرعون لعنه الله: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية