الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2965 ] يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (30) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32) وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50) ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من .مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) [ ص: 2966 ] إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57) سلام قولا من رب رحيم (58) وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67) ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68)

                                                                                                                                                                                                                                      بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب; والمثل الذي ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين; وما انتهى إليه أمرهم فإذا هم خامدون .يبدأ الحديث في هذا الدرس بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين; ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين، الذين يذهبون أمامهم ولا يرجعون إلا يوم الدين: وإن كل لما جميع لدينا محضرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يأخذ في استعراض الآيات الكونية التي يمرون عليها معرضين غافلين; وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم وفي تاريخهم القديم.وهم مع هذا لا يشعرون; وإذا ذكروا لا يذكرون: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وهم يستعجلون بالعذاب غير مصدقين: ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين

                                                                                                                                                                                                                                      وبمناسبة الاستعجال والتكذيب يستعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة يرون فيه مصيرهم الذي به يستعجلون، كأنه حاضر تراه العيون.

                                                                                                                                                                                                                                      يا حسرة على العباد! ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون؟ وإن كل لما جميع لدينا محضرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والحسرة انفعال نفسي على حال مؤسفة لا يملك الإنسان شيئا حيالها، سوى أن يتحسر وتألم نفسه.والله - سبحانه وتعالى - لا يتحسر على العباد; ولكنه يقرر أن حالة هؤلاء العباد; مما يستحق حسرة المتحسرين! فهي حال بائسة مؤسفة تنتهي بأصحابها إلى شر وخيم وبلاء عظيم!.

                                                                                                                                                                                                                                      يا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة النجاة فيعرضون عنها، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم لا يتدبرونها [ ص: 2967 ] ولا ينتفعون بها، ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين; ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة ويسيئون الأدب مع الله: ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون، على مدار السنين وتطاول القرون، لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر، ولكن العباد البائسين لا يتدبرون، وهم صائرون إلى ذات المصير؛ فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف؟!.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الحيوان ليرجف حين يرى مصرع أخيه أمامه; ويحاول أن يتوقاه قدر ما يستطيع؛ فما بال الإنسان يرى المصارع تلو المصارع، ثم يسير مندفعا في ذات الطريق؟ والغرور يملي له ويخدعه عن رؤية المصير المطروق!. وهذا الخط الطويل من مصارع القرون معروض على الأنظار ولكن العباد كأنهم عمي لا يبصرون!.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان الهالكون الذاهبون لا يرجعون إلى خلفائهم المتأخرين، فإنهم ليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كل لما جميع لدينا محضرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون؟ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      .إنهم يكذبون الرسل، ولا يتدبرون مصارع المكذبين، ولا يدركون دلالة كونهم يذهبون ولا يرجعون.

                                                                                                                                                                                                                                      والرسل إنما يدعونهم إلى الله، وكل ما في الوجود حولهم يحدثهم عن الله، ويدل عليه ويشهد بوجوده.وهذه هي الأرض القريبة منهم، يرونها ميتة لا حياة فيها، ولا ماء ينشئ الحياة ثم يرونها حية تنبت الحب، وتزدان بالجنات من نخيل وأعناب، وتتفجر فيها العيون، فتجري بالحياة حيث تجري.

                                                                                                                                                                                                                                      والحياة معجزة لا تملك يد البشر أن تجريها; إنما هي يد الله التي تجري المعجزات، وتبث روح الحياة في الموات، وإن رؤية الزرع النامي، والجنان الوارفة، والثمر اليانع، لتفتح العين والقلب على يد الله المبدعة، وهي تشق التربة عن النبتة المتطلعة للحرية والنور، وتنضر العود المستشرف للشمس والضياء، وتزين الغصن اللدن بالورق والثمار، وتفتح الزهرة وتنضج الثمرة، وتهيئها للجني والقطاف.. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم .ويد الله هي التي أقدرتهم على العمل، كما أقدرت الزرع على الحياة والنماء! أفلا يشكرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ويلتفت عنهم بعد هذه اللمسة الرفيقة ليسبح الله الذي أطلع لهم النبت والجنان، وجعل الزرع أزواجا ذكرانا وإناثا كالناس وكغيرهم من خلق الله الذي لا يعلمه سواه:

                                                                                                                                                                                                                                      سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه التسبيحة تنطلق في أوانها وفي موضعها; وترتسم معها حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود، حقيقة وحدة الخلق، وحدة القاعدة والتكوين، فقد خلق الله الأحياء أزواجا، النبات فيها كالإنسان، ومثل ذلك غيرهما. ومما لا يعلمون .وإن هذه الوحدة لتشي بوحدة اليد المبدعة، التي توجد قاعدة التكوين مع اختلاف الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس، والخصائص والسمات، في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله.. [ ص: 2968 ] ومن يدري فربما كانت هذه قاعدة الكون كله حتى الجماد! وقد أصبح معلوما أن الذرة - أصغر ما عرف من قبل من أجزاء المادة - مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربي، سالب وموجب يتزاوجان ويتحدان! كذلك شوهدت ألوف من الثنائيات النجمية، تتألف من نجمين مرتبطين يشد بعضهما بعضا، ويدوران في مدار واحد كأنما يوقعان على نغمة رتيبة!.

                                                                                                                                                                                                                                      تلك آية الأرض الميتة تنبثق فيها الحياة، ومنها إلى آية السماء وما يتعلق بها من ظواهر يراها العباد رأي العين، ويد الله تجريها بالخوارق المعجزات:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية