الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              86 (20) باب

                                                                                              لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان

                                                                                              [ 47 ] عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن ، فإياكم إياكم ! والتوبة معروضة بعد .

                                                                                              ذكره بأسانيد إلى أبي هريرة .

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 317 و 386 و 479 ) ، والبخاري ( 5578 ) ، ومسلم ( 57 ) ، وأبو داود ( 4689 ) ، والترمذي ( 2627 ) ، والنسائي ( 8 \ 64 ) ، وابن ماجه ( 3936 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (20) ومن باب لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان

                                                                                              هذه الترجمة مشعرة بأن هذه الأحاديث المذكورة تحتها ليست على ظواهرها ، بل متأولة ، وهي تحتمل وجوها من التأويلات ; أحدها : ما ذكر في الترجمة ، وسيأتي .

                                                                                              والزنى في العرف الشرعي : هو إيلاج فرج محرم ، في فرج محرم شرعا ، مشتهى طبعا ، من حيث هو كذلك ; فتحرزوا بمشتهى طبعا من اللواط وإتيان البهيمة ، وبقوله : من حيث هو كذلك عن وطء المحرمة والصائمة والحائض ; فإنه تحريم من جهة الموانع الخارجية .

                                                                                              و (قوله : " ولا ينتهب أحدكم نهبة ذات شرف ") النهبة والنهبى : اسم لما ينتهب من المال ، أي : يؤخذ من غير قسمة ولا تقدير ، ومنه سميت الغنيمة [ ص: 246 ] نهبى ، كما قال : وأصبنا نهب إبل ، أي : غنيمة إبل ; لأنها تؤخذ من غير تقدير ، يقول العرب : أنهب الرجل ماله فانتهبوه ونهبوه وناهبوه ; قاله الجوهري .

                                                                                              وذات شرف ، أي : ذات قدر ومال ورفعة ، والرواية الصحيحة بالشين المعجمة ، وقد رواه الحربي : سرف بالسين المهملة ، وقال : معناه : ذات مقدار كثير ينكره الناس ; كنهب الفساق في الفتن المال العظيم القدر مما يستعظمه الناس ، بخلاف التمرة والفلس وما لا خطر له .

                                                                                              ومقصود هذا الحديث : التنبيه على جميع أنواع المعاصي ، والتحذير منها : فنبه بالزنى على جميع الشهوات المحرمة ; كشهوة النظر ، والكلام والسمع ، ولمس اليد ، ونقل الخطا إلى مثل تلك الشهوة ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : زنى العينين النظر ، وزنى اللسان الكلام ، وزنى اليد البطش ، وزنى الرجل الخطا ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه . ونبه بالسرقة على اكتساب المال بالحيل الخفية ، وبالنهب على اكتسابه على جهة الهجم والمغالبة ، وبالغلول : على أخذه على جهة الخيانة ; هذا ما أشار إليه بعض علمائنا .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا تنبيه لا يتمشى إلا بالمسامحة ، وأولى منه أن يقال : إن الحديث يتضمن التحذير عن ثلاثة أمور ، وهي من أعظم أصول المفاسد ، وأضدادها من أصول المصالح ، وهي استباحة الفروج المحرمة ، والأموال المحرمة ، وما يؤدي إلى الإخلال بالعقول ، وخص بالذكر أغلب الأوجه حرمة التي يؤخذ بها مال الغير بغير الحق ، وظاهر هذا الحديث : حجة للخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبائر ، غير أن أهل السنة [ ص: 247 ] يعارضونهم بظواهر أخرى أولى منها ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي ذر : من مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق . وكقوله في حديث عبادة بن الصامت : ومن أصاب شيئا من ذلك - يعني : من القتل والسرق والزنى - فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن لم يعاقب ، فأمره إلى الله ; إن شاء عفا ، وإن شاء عذبه . ويعضد هذا قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] ، ونحو هذا في الأحاديث كثير .

                                                                                              ولما صحت هذه المعارضة ، تعين تأويل تلك الأحاديث الأول وما في معناها ، وقد اختلف العلماء في ذلك ; فقال حبر القرآن عبد الله بن عباس : إن ذلك محمول على المستحل لتلك الكبائر . وقيل : معنى ذلك : أن مرتكب تلك الكبائر يسلب عنه اسم الإيمان الكامل أو النافع ، الذي يفيد صاحبه الانزجار عن هذه الكبائر .

                                                                                              وقال الحسن : يسلب عنه اسم المدح الذي سمي به أولياء الله المؤمنون ، ويستحق اسم الذم الذي سمي به المنافقون والفاسقون .

                                                                                              وفي البخاري : عن ابن عباس : ينزع منه نور الإيمان . وروى في ذلك حديثا مرفوعا ، فقال : من زنى ، نزع الله نور الإيمان من قلبه ، فإن شاء أن يرده إليه ، رده .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وكل هذه التأويلات حسنة ، والحديث قابل لها ، وتأويل ابن عباس هذا أحسنها .

                                                                                              [ ص: 248 ] و (قوله : " والتوبة معروضة بعد ") هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إرشاد لمن وقع في كبيرة أو كبائر إلى الطريق التي بها يتخلص ، وهي التوبة . ومعنى كونها معروضة ، أي : عرضها الله تعالى على العباد ، حيث أمرهم بها وأوجبها عليهم ، وأخبر عن نفسه أنه تعالى يقبلها ; كل ذلك فضل من الله تعالى ، ولطف بالعبد ; لما علم الله تعالى من ضعفه عن مقاومة الحوامل على المخالفات ، التي هي : النفس والهوى ، والشيطان الإنسي والجني ، فلما علم الله تعالى أنه يقع في المخالفات ، رحمه بأن أرشده إلى التوبة ، فعرضها عليه وأوجبها ، وأخبر بقبولها . وأيضا : فإنه يجب على النصحاء أن يعرضوها على أهل المعاصي ويعرفوهم بها ، ويوجبوها عليهم ، وبعقوبة الله تعالى لمن تركها ، وذلك كله لطف متصل إلى طلوع الشمس من مغربها ، أو إلى أن يغرغر العبد ; كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و " بعد " : ظرف مبني على الضم ; لقطعه عن الإضافة لفظا ، وإرادة المضاف ضمنا ، ويقابلها قبل ; كما قال الله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد [ الروم : 4 ] .




                                                                                              الخدمات العلمية