الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 89 ] المسألة الثانية ) قوله تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } وقاعدة لو إذا دخلت على ثبوتين عادا نفيين أو على نفيين عادا ثبوتين أو على نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي كقولنا لو جاءني زيد لأكرمته فهما ثبوتان فما جاءك ولا أكرمته .

ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان والتقدير أنه استدان وطولب ولو لم يؤمن أريق دمه والتقدير أنه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل تقديره لم يؤمن فقتل .

فإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله تعالى نفدت وليس كذلك لأن لو دخلت هنا على ثبوت أولا ونفي أخيرا فيكون الثبوت الأول نفيا وهو كذلك فإن الشجر ليست أقلاما ويلزم أن النفي الأخير ثبوت فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه السلام { نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه } يقتضي أنه خاف وعصى مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذما لكن الحديث سيق للمدح وعادة الفضلاء يتولعون بالحديث كثيرا أما الآية فقليل من يتفطن لها وذكر الفضلاء في الحديث أجوبة أما الآية الكريمة فلم أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أني ظهر لي جواب عن الجميع هو حسن سأذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكري لأجوبة الناس لأن من سبق أولى بالتقديم أما أجوبة الناس في الحديث فقال الأستاذ ابن عصفور : لو في الحديث بمعنى إن لمطلق الربط [ ص: 90 ] وأن لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال شمس الدين الخسرو شاهي : إن لو في أصل اللغة لمطلق الربط وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة .

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلفه السبب الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك ها هنا الناس في الغالب إنما لم لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر عليه السلام أن صهيبا رضي الله عنه اجتمع في حقه سببان يمنعانه من المعصية الخوف والإجلال فلو انتفى الخوف في حقه لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال وهذا مدح عظيم جليل لصهيب وكلام حسن .

وأجاب غيرهم بأن الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله ودل على ذلك قوله لم يعصه وهذه الأجوبة تأتي في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وأنها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلل بالأسباب فتأمل ذلك هذا كلام الفضلاء الذي اتصل بي والذي ظهر لي أن لو أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم ثم إنها أيضا تستعمل لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل : لو لم يكن زيد زوجا لم يرث فتقول له أنت : لو لم يكن زوجا لم يحرم تريد أن ما ذكره من الربط

[ ص: 91 ] بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ارتباط كلامك وتقول لو لم يكن زيد عالما لأكرم أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل تتوهمه أو سمعته وهو يقول : إنه إذا لم يكن عالما لم يكرم فيربط بين عدم العلم وعدم الإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك ليس بمناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا على عدم الربط كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم وأن ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا الربط وقال { : لو لم يخف الله لم يعصه } وكذلك لما كان الغالب على الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلاما والبحر المالح مع غيره مدادا يكتب به يقول الوهم ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن يكون قطع الله تعالى هذا الربط وقال ما نفدت وهذا الجواب أصلح من الأجوبة المتقدمة من وجهين : أحدهما شموله لهذين الموضعين وبعضها لم يشمل كما تقدم بيانه وثانيهما أن لو بمعنى أن خلاف الظاهر ومخالف للعرف وادعاء النقل خلاف الأصل والظاهر وحذف الجواب خلاف الظاهر وما ذكرته من الجواب ليس فيه مخالفة للعرف فإن أهل العرف يستعملون ما ذكرته ولا [ ص: 92 ] يفهمون غيره في تلك الموارد ويعم هذا الجواب الواجب لذاته كصفات الله وكلماته والممكن القابل للتعليل كطاعة صهيب رضي الله عنه .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 89 ] قال : شهاب الدين ( المسألة الثانية قوله تعالى { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } وقاعدة لو أنها إذا دخلت على ثبوتين عادا نفيين أو على نفيين عادا ثبوتين أو على نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي كقولنا لو جاءني زيد لأكرمته فهما ثبوتان فما جاءني زيد ولا أكرمته ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان والتقدير أنه استدان وطولب ولو لم يؤمن أريق دمه والتقدير أنه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل تقديره لم يؤمن فقتل .

فإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله تعالى نفدت وليس كذلك لأن لو دخلت هنا على ثبوت أولا ونفي أخيرا فيكون الثبوت الأول نفيا . وهو كذلك فإن الشجر ليست أقلاما ويلزم أن النفي الأخير ثبوت فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه السلام { نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه } يقتضي أنه خاف وعصى مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذما لكن الحديث سيق للمدح وعادة الفضلاء يتولعون بالحديث كثيرا أما الآية فقليل من يتفطن لها ) قلت : ما قاله في ذلك ليس بصحيح لأن لو إنما هي في اللغة لمجرد الربط خاصة وما توهم هو وغيره فيها إنما هو من قبيل مفهوم الشرط فإن قيل به صح ذلك وإلا فلا .

قال : ( وذكر الفضلاء في الحديث أجوبة أما الآية الكريمة فلم أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أني ظهر لي جواب عن الجميع هو حسن سأذكره إن شاء تعالى بعد ذكري لأجوبة الناس لأن من سبق أولى بالتقديم أما أجوبة الناس في الحديث فقال : الأستاذ ابن عصفور لو في الحديث بمعنى إن لمطلق الربط [ ص: 90 ] وأن لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال الشيخ شمس الدين الخسرو شاه أن لو في أصل اللغة لمطلق الربط وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة وقال : الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه . وقد يكون له سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف السبب الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك هنا الناس في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر عليه السلام أن صهيبا اجتمع عنده سببان يمنعانه من المعصية الخوف والإجلال فلو انتفى الخوف في حقه لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال وهذا مدح كبير وكلام حسن .

وأجاب غيرهم بأن الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله ودل على ذلك قوله لم يعصه وهذه الأجوبة تأتي في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وأنها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلل بالأسباب فتأمل ذلك هذا كلام الفضلاء الذي اتصل بي والذي ظهر لي أن لو أصلها إن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم ، ثم إنها أيضا تستعمل لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال : القائل لو لم يكن زيد زوجا لم يرث فتقول : أنت لو لم يكن زوجا لم يحرم تريد أن ما ذكره من الربط [ ص: 91 ] بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم وأن ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربط وقال : { لو لم يخف الله لم يعصه } وكذلك لما كان الغالب على الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلاما والبحر المالح مع غيره مدادا يكتب به يقول الوهم ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن يكون قطع الله تعالى هذا الربط وقال : ما نفدت ) .

قلت : جواب أبي الحسن بن عصفور يقتضي أنها مجاز في الحديث والمجاز على خلاف الأصل فلا يدعى إلا عند الضرورة وأما جواب شمس الدين فهو الصحيح غير قوله إنما اشتهرت في العرف فإن ذلك العرف الذي ادعاه لم يثبت عن اللغة ولا عن الشرع فهو عرف لغير أهل اللغة ولغير أهل الشرع ولا حجة في عرف غيرهما ولا اعتبار به في مثل هذا .

وأما جواب عز الدين فغايته إن أبدى وجها لمطلق الربط وارتفاع توهم ذلك المفهوم وأما جواب من قال بحذف الجواب فحذف المحذوف لا يثبت إلا لضرورة ولا ضرورة هنا وأما جوابه هو فمحوج إلى تكلف سبق كلام يكون هذا جوابا له وتقدير ذلك وكل ذلك لا يصح في الآية أما سبق كلام يكون هذا جوابا له فلم يكن في الأزل من يكون كلام الله تعالى جوابا له ولا يصح أن يكون كلام الله تعالى جوابا له ولا يصح أن يكون كلام الله تعالى على تقدير سبق كلام فإن هذا التقدير إنما معناه احتمال سبق كلام الله والله تعالى منزه عن مثل هذا الاحتمال إذ تقرر أنه العالم بما كان وبما يكون وبما لم يكن ولا يكون فإن قيل : جاز ذلك في الآية على ما سبق في علمه من توهم من يسمع والآية كذلك فالجواب أن ذلك تكلف يغني عنه أنها لمطلق الربط .

قال : ( وهذا الجواب أصلح من الأجوبة المتقدمة إلى آخر المسألة ) قلت : قد تبين أنه ليس بأصلح وفيه دعوى سبق كلام يكون [ ص: 92 ] هذا جوابا له أو تقدير سبق كلام والأصل عدم ذلك .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثانية ) لو في اللغة إنما لمجرد الربط خاصة وما توهموه فيها من أنها إذا دخلت على ثبوتين نحو لو جاءني زيد لأكرمته عادا نفيين فما جاء زيد ولا أكرم أو على نفيين نحو لو لم يستدن لم يطالب عادا ثبوتين فقد استدان وطولب أو على نفي وثبوت نحو لو لم يؤمن أريق دمه أو لو آمن لم يقتل كان النفي ثبوتا والثبوت نفيا ففي الأول آمن ولم يرق دمه وفي الثاني لم يؤمن فقتل إنما هو من قبيل مفهوم الشرط فإن قيل به صح ذلك وإلا فلا فهي في قوله تعالى { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } وردت بمعناها اللغوي لمطلق الربط فلا تقتضي أن كلمات الله تعالى نفدت فلا داعي إلى ما قالوه في الآية من التكلفات فافهم .




الخدمات العلمية