الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2916 ] موسى وفرعون وبنو إسرائيل

                                                          ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون

                                                          [ ص: 2917 ] ذكر الله تعالى أخبار الأنبياء الذين أشرك أقوامهم، ودعوة الأنبياء لهم، فذكر نوحا وقومه، وما نزل بهم، وذكر عادا ونبيهم هودا، وثمود ونبيهم صالحا، وذكر لوطا وقومه وما كانوا عليه من مفاسد لم يسبقهم بها أحد من العالمين.

                                                          وقد بين - سبحانه وتعالى - سنته في هداية الأقوام، وكيف يضلون.

                                                          ومن بعد ذلك ذكر موسى - عليه السلام - وأنه لقي أكبر طاغية في عصره، وإن وجد من حاول محاكاته من بعده، ومع موسى وفرعون ذكر لأحوال بني إسرائيل، بعد أن أنقذهم موسى - عليه السلام - من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.

                                                          وإن هؤلاء في الزمن بعد من سبق ذكرهم في القرآن من نوح إلى شعيب، وأكثر أولئك كانوا في البلاد العربية، وموسى - عليه السلام - نشأ في مصر ، وبعث في أرض مصر ، وتقدم هو وأخوه هارون لدعوة فرعون.

                                                          قال تعالى: ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

                                                          والتعبير بـ(ثم) يدل على بعد الزمان والمكان ما بين هؤلاء الذين جاء ذكرهم من الأنبياء، وموسى - عليه السلام - فأولئك كانوا قبله بقرون، وكانوا في أرض العرب، وموسى في أرض مصر ، وأولئك خاطبوا أقوامهم في صحراء أقرب إلى البادية ولم تعرف لهم حضارة، وموسى - عليه السلام - كان في أرض فرعون، وفيها ملك ثابت، وإن لم يقم على الإيمان، وكانت مصر ذات علوم وفنون.

                                                          ويقول الله تعالى في بعث موسى: إلى فرعون وملئه فلم يكن إلى فرعون وحده، بل كان إليه وإلى الكبراء من قومه، فذكرهم مع أنه إذا ذكر جاءوا في ذكره ضمنا، ونقول: إن كل ذي طاغوت لا يكون طاغوته من شخصه وحده، [ ص: 2918 ] بل منه ومن حاشيته، فهم مطبوعون بطابعه، يزينون له ما يفعل ويحسنونه ويؤيدونه ويشجعونه، ولولا أنهم حوله ما طغى وبغى، أو ما كان طغيانه بالمقدار الذي وصل أو يصل إليه كل طاغية، ولقد رأينا بعض الطواغيت في هذا الزمان يتخذ حاشية تعينه على الظلم، بل تطغى عليه وهو لا يشعر، رأينا ذلك رأي العيان; ولذا خص الله تعالى ملأ فرعون بالذكر، وسنجد من سياق القصص الحكيم في أمر فرعون أن ملأه كان يعاونه بالقول والفعل، ويسكت عن جرائمه من اعتراض دائما.

                                                          وقد نسب الله تعالى الظلم إليهم مع فرعون ولم يفرده بالظلم، فقال: فظلموا بها فلم يكن الظلم من فرعون وحده بل كان منه ومن هذا الملأ، والشعب مأكول فيهما ومأسور بظلمهما.

                                                          والظلم يشمل ظلم الرعية، ويشمل الظلم في العقيدة بالشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، والظلم يؤدي الفساد، فالشرك في العقيدة إفساد للعقل والفكر والنفس بالضلال، والضلال أبلغ أنواع الشرك، والشرك ينشأ من الأوهام ويؤدي إلى كثرة الأوهام والضلال، ألم تر أنهم كانوا يعبدون العجل؟! والظلم يؤدي إلى فساد الرعية بالخنوع والطاعة للظالم، والرضا بالهون، وفقد الحرية والاندفاع في الظلم، حتى ساغ له أن يقول لهم: ما أريكم إلا ما أرى

                                                          ولذا قال تعالى بعد أن ذكر الظلم: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين انظر يا محمد مآل الذين أفسدوا في الأرض بشركهم وإرهاقهم للرعية واستبدادهم، إني عاقبتهم أن أغرقوا في اليم، ولم يجد فرعون وملأه أن قالوا: آمنا برب هارون وموسى.

                                                          فلننظر إلى ما كان من فرعون أكبر طاغية في عصره، ويحاكيه الطغاة في كل عصر، وقد كان فرعون جاهلا في أرض مصر ، وسام أهلها سوء العذاب، لجنونه وحمقه وجهله، حتى أرداها فيما لم تترد فيه في أي عصر من عصورها.

                                                          [ ص: 2919 ] أيد الله موسى بمعجزات كثيرة، عدها الله تعالى آيات، أيده بالعصا، وباليد البيضاء من غير سوء، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، وكانت هذه الآيات الكثيرة لإمعانهم في الضلال والطغيان، وكانت كل آية تأتي في حال تناسبها، ووقت الحاجة إليها.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية