الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطلاق باب قول الله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة أحصيناه حفظناه وعددناه وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويشهد شاهدين

                                                                                                                                                                                                        4954 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء [ ص: 258 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 258 ] قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الطلاق ) الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك . وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط ، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي . قال إمام الحرمين : هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره . وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضا وهو أفصح ، وطلقت أيضا بضم أوله وكسر اللام الثقيلة ، فإن خففت فهو خاص بالولادة والمضارع فيهما بضم اللام ، والمصدر في الولادة طلقا ساكنة اللام ، فهي طالق فيهما .

                                                                                                                                                                                                        ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا ، أما الأول ففيما إذا كان بدعيا وله صور ، وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال ، وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان ، وأما الرابع ففيما إذا كانت غير عفيفة ، وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع ، فقد صرح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقول الله تعالى ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ) أما قوله تعالى إذا طلقتم النساء فخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيما أو على إرادة ضم أمته إليه ، والتقدير يا أيها النبي وأمته . وقيل هو على إضمار قل أي قل لأمتك ، والثاني أليق ، فخص النبي عليه الصلاة والسلام بالنداء [ ص: 259 ] لأنه إمام أمته اعتبارا بتقدمه وعم بالخطاب كما يقال لأمير القوم يا فلان افعلوا كذا ، وقوله إذا طلقتم أي إذا أردتم التطليق جزما ، ولا يمكن حمله على ظاهره . وقوله لعدتهن أي عند ابتداء شروعهن في العدة ، واللام للتوقيت كما يقال لقيته لليلة بقيت من الشهر ، قال مجاهد في قوله تعالى ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن قال ابن عباس : في قبل عدتهن ، أخرجه الطبري بسند صحيح . ومن وجه آخر أنه قرأها كذلك ، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر في آخر حديثه قال ابن عمر " وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " ونقلت هذه القراءة أيضا عن أبي وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم ، وسيأتي في حديث ابن عمر في الباب مزيد بيان في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أحصيناه حفظناه ) هو تفسير أبي عبيدة ، وأخرج الطبري معناه عن السدي ، والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العدة لئلا يلتبس الأمر بطول العدة فتتأذى بذلك المرأة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ) روى الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن قال : في الطهر من غير جماع ، وأخرجه عن جمع من الصحابة ومن بعدهم كذلك ، وهو عند الترمذي أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ويشهد شاهدين ) مأخوذ من قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم وهو واضح ، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال " كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت " وقد قسم الفقهاء الطلاق إلى سني ، وبدعي ، وإلى قسم ثالث لا وصف له . فالأول ما تقدم . والثاني أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين أمرها أحملت أم لا ، ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة ومنهم من أضاف له الخلع . والثالث تطليق الصغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها ، وكذا إذا وقع السؤال منها في وجه بشرط أن تكون عالمة بالأمر ، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنه طلاق ، ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور : منها ما لو كانت حاملا ورأت الدم وقلنا الحامل تحيض فلا يكون طلاقها بدعيا ولا سيما إن وقع بقرب الولادة ، ومنها إذا طلق الحاكم على المولي واتفق وقوع ذلك في الحيض ، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقا لرفع الشقاق ، وكذلك الخلع والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أنه طلق امرأته ) في مسلم من رواية الليث عن نافع " أن ابن عمر طلق امرأة له " وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر " طلقت امرأتي " وكذا في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر ، قال النووي في تهذيبه : اسمها آمنة بنت غفار قاله ابن باطيش ، ونقله عن النووي جماعة ممن بعده منهم الذهبي في " تجريد الصحابة " لكن قال في مبهماته : فكأنه أراد مبهمات التهذيب . وأوردها الذهبي في آمنة بالمد وكسر الميم ثم نون وأبوها غفار ضبطه ابن يقظة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء ، ولكني رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمع سعيد العيار بسند فيه ابن لهيعة أن ابن عمر طلق امرأته آمنة بنت عمار ; كذا رأيتها في بعض الأصول بمهملة مفتوحة ثم ميم ثقيلة والأول أولى ، وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال " حدثنا يونس حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض ، فقال عمر : يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته النوار ، فأمره أن يراجعها " الحديث ، وهذا الإسناد على شرط الشيخين ، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمد المؤدب من رجالهما ، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة عن الليث ولكن لم تسم عندهما ، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها [ ص: 260 ] آمنة ولقبها النوار .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وهي حائض ) في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض ، وعند البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه طلق امرأته في حيضها .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كذا في رواية مالك ومثله عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر ، وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك استغناء بما في الخبر أن عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده ، وزاد الليث عن نافع " تطليقة واحدة " أخرجه مسلم ، وقال في آخره " جود الليث في قوله تطليقة واحدة " اهـ ، وكذا وقع عند مسلم من طريق فإن عمر إنما استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به ، فمن مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط ، فإن القرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورا بالتبليغ ، ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع " فأمره أن يراجعها " وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوس عن ابن عمر وفي رواية الزهري عن سالم " فليراجعها " وفي رواية لمسلم " فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية أبي الزبير عن ابن عمر " ليراجعها " وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر " فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا " وقد اقتضى كلام سليم الرازي في " التقريب " أنه يجب على الثاني الفعل جزما وإنما الخلاف في تسميته آمرا فرجع الخلاف عنده لفظيا . وقال الفخر الرازي في " المحصول " : الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجبت على عمرو كذا وقال لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء . قلت : وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غيره ، فمهما أمر الرسول أحدا أن يأمر به غيره وجب لأن الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصحيح " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني " وأما غيره ممن بعده فلا ، وفيهم تظهر صورة التعدي التي أشار إليها ابن الحاجب . وقال ابن دقيق العيد : لا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب ، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا ؟ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا . قلت : وهو حسن ، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هـذا الخلاف حديث " مروا أولادكم بالصلاة لسبع " فإن الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب ، وإنما الطلب متوجه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك ، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق وليس مساويا للأمر الأول ، وهذا إنما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلف ، وهو بخلاف القصة التي في حديث الباب .

                                                                                                                                                                                                        والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغا محضا والثاني مأمور من قبل الشارع ، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه " ومروهم بصلاة كذا في حين كذا " وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم " مرها فلتصبر ولتحتسب " ونظائره كثيرة ، فإذا أمر الأول الثاني بذلك فلم يمتثله كان عاصيا ، وإن توجه الخطاب من الشارع لمكلف أن يأمر غير مكلف أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان ، والصورة الثانية هي التي يتصور فيها أن يكون الأمر متعديا بأمره للأول أن يأمر الثاني ، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله المستعان . واختلف في وجوب المراجعة ، فذهب إليه مالك وأحمد في رواية ، والمشهور عنه - وهو قول الجمهور - أنها مستحبة ، واحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك ، لكن صحح صاحب " الهداية " من الحنفية أنها واجبة ، والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها ، ولأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة ، فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت قال مالك وأكثر أصحابه : يجبر على الرجعة أيضا ، وقال أشهب منهم إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة ، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة ، وأنه لو [ ص: 262 ] طلق في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها ، كذا نقله ابن بطال وغيره ، لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحناطي من الشافعية وجها ، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر فطرد الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم ليمسكها ) أي يستمر بها في عصمته .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ) في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع " ثم ليدعها حتى تطهر ، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها " ونحوه في رواية الليث وأيوب عن نافع ، وكذا عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار ، وكذا عندهما من رواية الزهري عن سالم ، وعند مسلم من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ " مره فليراجعها ، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " قال الشافعي : غير نافع إنما روى " حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق " رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم قلت : وهو كما قال ، لكن رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع ، وقد نبه على ذلك أبو داود ، والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا . وقد اختلف في الحكمة في ذلك فقال الشافعي : يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض ، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه . وقيل : الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق ، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة ، لأنه قد يطول مقامه معها ، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها . وقيل : إن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه كقرء واحد ، فلو طلقها فيه لكان كمن طلق في الحيض ، وهو ممتنع من الطلاق في الحيض ، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني . واختلف في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة . وفيه للشافعية وجهان أصحهما المنع ، وبه قطع المتولي ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث . وعبارة الغزالي في " الوسيط " وتبعه مجلي : هل يجوز أن يطلق في هذا الطهر ؟ وجهان . وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب . وقال ابن تيمية في " المحرر " : ولا يطلقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة ، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك . وفي كتب الحنفية عن أبي حنيفة الجواز ، وعن أبي يوسف ومحمد المنع ، ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض ، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده ، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدم طلاق في الحيض ، وقد ذكرنا حجج المانعين ، ومنها أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها ، وهذا عكس مقصود الرجعة فإنها شرعت لإيواء المرأة ولهذا سماها إمساكا فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق ، ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه ، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر " مره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها " فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر فكيف يبيح له أن يطلقها فيه ؟ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ) في رواية أيوب ثم يطلقها قبل أن يمسها وفي رواية عبيد الله بن عمر فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها ونحوه في رواية الليث ، وفي رواية [ ص: 263 ] الزهري عن سالم " فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها " وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وتمسك بهذه الزيادة من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنه لا يحرم . والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق ، وأيضا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها ، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق ، فلو كان من غيره بأن نكح حاملا من زنا ووطئها ثم طلقها أو وطئت منكوحة بشبهة ثم حملت منه فطلقها زوجها فإن الطلاق يكون بدعيا ، لأن عدة الطلاق تقع بعد وضع الحمل والنقاء من النفاس ، فلا تشرع عقب الطلاق في العدة كما في الحامل منه ، قال الخطابي : في قوله ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق دليل على أن من قال لزوجته وهي حائض : إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقا للسنة ، لأن المطلق للسنة هو الذي يكون مخيرا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه ، واستدل بقوله " قبل أن يمس " على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام ، وبه صرح الجمهور ، فلو طلق هل يجبر على الرجعة كما يجبر عليها إذا طلقها وهي حائض ؟ طرده بعض المالكية فيهما ، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطاهر ، وقالوا فيما إذا طلقها وهي حائض : يجبر على الرجعة ، فإن امتنع أدبه الحاكم ، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه . وهل يجوز له وطؤها ؟ بذلك روايتان لهم أصحهما الجواز ، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا ولا يجبر إذا طلقها نفساء ; وهو جمود .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وفي روايته من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري " فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضها " واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هـل المراد به انقطاع الدم أو التطهر بالغسل ؟ على قولين ، وهما روايتان عن أحمد ، والراجح الثاني ، لما أخرجه النسائي من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصة قال " مر عبد الله فليراجعها ، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها ، وإن شاء يمسكها فليمسكها " وهذا مفسر لقوله " فإذا طهرت " فليحمل عليه ، ويتفرع من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة ، أو لا بد من الاغتسال ؟ فيه خلاف أيضا . والحاصل أن الأحكام المرتبة على الحيض نوعان : الأول يزول بانقطاع الدم كصحة الغسل والصوم وترتب الصلاة في الذمة ، والثاني لا يزول إلا بالغسل كصحة الصلاة والطواف وجواز اللبث في المسجد ، فهل يكون الطلاق من النوع الأول أو من الثاني ؟ وتمسك بقوله " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " من ذهب إلى أن طلاق الحامل سني ، وهو قول الجمهور ، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ) أي أذن ، وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وصرح معمر في روايته عن أيوب عن نافع بأن هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية الزبير عند مسلم قال ابن عمر " وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ياأيها النبي إذا طلقتم النساء الآية " واستدل به من ذهب إلى أن الإقراء أطهار للأمر بطلاقها في الطهر ، وقوله فطلقوهن لعدتهن أي وقت ابتداء عدتهن ، وقد جعل للمطلقة تربص ثلاثة قروء ، فلما نهى عن الطلاق في الحيض وقال إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه علم أن الإقراء الأطهار ، قاله ابن عبد البر . وسأذكر بقية فوائد حديث ابن عمر في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية