الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل ( تولي ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان )

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور ، وفي غيبته هذه قتل عثمان . وحضر مع علي يوم الجمل ، وكان على الميسرة يوم صفين ، وشهد قتال الخوارج ، وتأمر على البصرة من جهة علي ، فكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة ، وزياد بن أبي سفيان على الخراج ، وكان أهل البصرة مغبوطين به ، يفقههم ويعلم جاهلهم ، ويعظ مجرمهم ، ويعطي فقيرهم ، فلم يزل عليها حتى مات علي ، ويقال : إن عليا عزله عنها قبل موته ، ثم وفد على معاوية ، فأكرمه وقربه واحترمه [ ص: 106 ] وعظمه ، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب فيها سريعا ، فكان معاوية يقول : ما رأيت أحدا أحضر جوابا من ابن عباس . ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية ، ورد عليه ابن عباس ردا حسنا كما قدمنا ، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس فعزاه بعبارة فصيحة بليغة وجيزة ، شكره عليها ابن عباس - وقد تقدم ذلك أيضا - ولما مات معاوية ورام الحسين بن علي الخروج إلى العراق ، نهاه ابن عباس أشد النهي ، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين ; - لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه ، فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته ، وكان يقول : يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم ، فإنك إن لا تفعل تندم ، وجاء إليه رجل يقال له : جندب . فقال له أوصني : فقال : أوصيك بتوحيد الله ، والعمل له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإن كل خير أنت آتيه بعد ذلك مقبول ، وإلى الله مرفوع ، يا جندب ، إنك لن تزداد من يومك إلا قربا ، فصل صلاة مودع ، وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر ، فإنك من أهل القبور ، وابك على ذنبك ، وتب من خطيئتك ، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع [ ص: 107 ] نعلك ، وكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله ، ولن تنتفع بما خلفت ، ولن ينفعك إلا عملك . وقال بعضهم :أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم قال : لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا ، ولا تمارين سفيها ولا حليما ; فإن الحليم يغلبك والسفيه يزدريك ، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام . فقال رجل عنده : يابن عباس ، هذا خير من عشرة آلاف . فقال ابن عباس : كلمة منه خير من عشرة آلاف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس : تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره . يعني أن تعجل العطية للمعطى ، وأن تصغر في عين المعطي ، وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها ; فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى ، واستحياءه من الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس : أعز الناس علي جليسي ; لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت . وقال أيضا : لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعا إلا الله ، عز وجل ، وكذا رجل بدأني بالسلام ، أو أوسع لي في مجلس ، أو قام لي عن المجلس أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ ، [ ص: 108 ] أو رجل حفظني بظهر الغيب . والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جدا ، وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الأشراف ، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك . وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه ، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه فقيل في ذلك ، فقال : أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى ، فلما ذهبتا اطمأن قلبي . وقال أبو القاسم البغوي : ثنا علي بن الجعد ، ثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه وقع في عينه الماء فقيل له : ننزع من عينك الماء ، على أنك لا تصلي سبعة أيام ؟ فقال : لا ، إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان . وفي رواية أنه قيل له : نزيل هذا الماء من عينك على أن تبقى خمسة أيام لا تصلي إلا على عود ، وفي رواية : إلا مستلقيا ، فقال : لا ، والله ولا ركعة واحدة ، إنه من ترك صلاة واحدة متعمدا ، لقي الله وهو عليه غضبان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وسمعي منهما نور     قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي فمي صارم كالسيف مأثور



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 109 ] ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان ، اعتزل ابن عباس ، و محمد ابن الحنفية الناس ، فدعاهما ابن الزبير ; ليبايعاه فأبيا عليه ، وقال كل منهما : لا نبايعك ولا نخالفك ، فهم بهما ، فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة ، وهموا بابن الزبير ، فانطلق ابن الزبير هاربا وتعلق بأستار الكعبة ، وقال : أنا عائذ بالله . فكفوهم عنه ، ثم مالوا إلى ابن عباس ، و ابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم ، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف ، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحدا ، كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما كان في سنة ثمان وستين توفي عبد الله بن عباس بالطائف ، وصلى عليه محمد ابن الحنفية ، وقال : مات اليوم حبر هذه الأمة . فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته ، فدخل في أكفانه والتف فيها حتى دفن معه . قال عفان : فكانوا يرونه [ ص: 110 ] علمه ، فلما وضع في اللحد تلا تال لا يعرف من هو - وفي رواية : أنهم سمعوا من قبره : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الأئمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل و الواقدي ، و ابن عساكر ، وهو المشهور عند الحفاظ . وقيل : إنه توفي سنة ثلاث وستين ، وقيل : سنة ثلاث وسبعين ، وقيل : سنة سبع وستين . وقيل : سنة تسع وستين ، وقيل : سنة سبعين ، والصحيح الأول ، وهذه الأقوال كلها شاذة غريبة مردودة . والله سبحانه وتعالى أعلم . وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة . وقيل إحدى وسبعين . وقيل أربعا وسبعين . والأول أصح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية