الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1806 [ ص: 62 ] [ ص: 63 ] حديث ثالث عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أن رجلا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ترى في الضب ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست بآكله ، ولا بمحرمه .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه أكثر الرواة للموطأ ، عن مالك ورواه ابن بكير ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه خالد بن مخلد ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهو صحيح لمالك عنهما جميعا ، وهو محفوظ من حديث نافع كما هو محفوظ من حديث ابن دينار ، وقد رواه قوم ، منهم : بشر بن عمر ، عن مالك ، عن نافع وعبد الله بن دينار جميعا ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر .

[ ص: 64 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، قال : سأل رجل النبي - عليه السلام - ، وهو على المنبر ، عن الضب ، فقال : لا آكله ، ولا أحرمه .

واختلف الفقهاء في أكل الضب فذهب مالك ، والشافعي وأصحابهما إلى أنه لا بأس بأكله ; لأن الله تبارك وتعالى لم يحرمه ، ولا رسوله ، وقد أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحضرته ، ولو كان حراما لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا يأكله ، وقد مضى في باب ابن شهاب ، عن أبي أمامة من هذا الكتاب حديث ابن عباس ، عن خالد بن الوليد في الضب حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لم يكن بأرض قومي وأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته وأكلته ورسول الله ينظر .

فبهذا الحديث وما كان مثله أخذ مالك ، والشافعي في الضب فأجازا أكله وكره أبو حنيفة وأصحابه أكل الضب واحتجوا هم ومن ذهب مذهبهم في كراهية أكله بأحاديث ، منها ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : [ ص: 65 ] حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمة من بني إسرائيل مسخت وأخاف أن يكون منها هذا ، يعني الضب .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة ، قال : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتنا مجاعة فنزلنا بأرض كثيرة الضباب فأخذنا منها فطبخنا في القدور ، فقلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها الضباب ، فقال : إن أمة فقدت ، ولعلها هذه فأمرنا فكفأنا القدور .

هكذا روى هذا الحديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة ورواه حصين ، عن زيد بن وهب ، عن ثابت بن وديعة ، حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا خالد ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن ثابت بن وديعة ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش فأصبنا ضبابا ، قال : فشويت منها ضبا فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته بين يديه ، قال : فأخذ عودا فعد به [ ص: 66 ] أصابعه ، ثم قال : إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض ، وإني لا أدري أي الدواب هي ، قال : فلم يأكل منه ، ولم ينه .

قال أبو عمر : احتج بعض من كرهه بهذا الخبر ، واستدل على أنه مسخ بشبه كفه بكف الإنسان ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عد أصابعه قال ما قال ، ولم يأكل منه .

وأنشد بعضهم في صفة الضب :


له كف إنسان وخلق عظاءة وكالقرد والخنزير في المسخ والعصب

وقال ذو الرمة :


مناسمها صم صلاب كأنها رؤوس الضباب استخرجتها الظهائر

وأنشد الأصمعي :


إنا وجدنا بني حمان كلهم كساعد الضب لا طول ولا عظم

وإنما أنشدت هذه الأبيات لتقف على صورة الضب وتعرفه ، فإن بعض الجهال يخالف فيه .

[ ص: 67 ] وروى أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عائشة أنها أهدي لها ضب فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن أكله فنهاها عنه فجاء سائل فقامت لتناوله إياه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتطعمينه ما لا تأكلين .

وروى حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدي له ضب ، فلم يأكله ، فقام عليهم سائل ، فأرادت عائشة أن تعطيه ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أتعطيه ما لا تأكلين .

فاحتج من كره أكل الضب بهذه الأحاديث ، فأما حديث زيد بن وهب فمختلف في إسناده ، وقد روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن الله لم يهلك قوما ، أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة " ، وهو معارض مدافع لحديث زيد بن وهب هذا .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن علقمة بن مرثد ، عن مغيرة بن عبد الله اليشكري ، عن المعرور بن سويد ، عن عبد الله قال : قالت أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية " [ ص: 68 ] قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة أن يعجل شيئا قبل حله ، أو يؤخر شيئا عن أجله ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب القبر ، أو عذاب النار كان خيرا لك ، أو أفضل .

قال : وذكر عنده القردة ، قال مسعر : وأراه قال : والخنازير مما مسخ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ، ولا عقبا ، وقد كانت القردة ، والخنازير قبل ذلك .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا مسعر ، عن مرة ، عن علقمة بن مرثد ، عن المغيرة اليشكري ، عن المعرور بن سويد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قالت أم حبيبة . فذكر الحديث سواء .

وفيه قال : وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير أهم من نسل الذين مسخوا أم شيء كان قبل ذلك ؟ ، فقال : إن الله لم يهلك قوما قط فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة ، ولكنهم من شيء كان قبل ذلك .

[ ص: 69 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن خالته أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمنا وأضبا وأقطا فأكل من السمن ، والأقط ، وترك الأضب تقذرا وأكل على مائدته ، ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : حدثنا يزيد بن الأصم ، قال : ذكر الضب عند ابن عباس ، فقال بعض جلسائه : أتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يحله ، ولم يحرمه ، فقال ابن عباس : بئس ما تقولون ، إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محللا ومحرما ، جاءت أم حفيد ميمونة بنت الحارث ومعها طعام فيه لحم ضب فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما غسق - يعني أظلم - فقرب إليه الطعام ، فكرهت ميمونة أن يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام لا يعلم ما هو ، فقالت : [ ص: 70 ] يا رسول الله إن فيه لحم ضب فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمسكت ميمونة وأكل من كان عنده ، فقال ابن عباس : فلو كان حراما لنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله .

قال أبو عمر : قول ابن عباس هو فقه هذا الباب ، وهو الصحيح من معانيه ، وهو كاف يغني عن كل حجة لمن تدبر وفهم ، وبالله العون لا شريك له .

‌‌‌‌‌‌‌‌‌



الخدمات العلمية