الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد خلقناكم ثم صورناكم تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليه السلام ، سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم ، وتأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين في الأرض ، إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة ، وإما للإيذان بأن كلا منها نعمة مستقلة مستوجبة للشكر على حيالها ، فإن رعاية الترتيب الوقوعي ربما تؤدي إلى توهم عد الكل نعمة واحدة ، كما ذكر في قصة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وتصدير الجملتين بالقسم وحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونهما ، وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين ، مع أن المراد بهما : خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما ، توفية لمقام الامتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم [ ص: 215 ] بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام ، وتصويره لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام ، كسجود الملائكة له عليه السلام ، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا ; إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ، ومصنوع على شاكلته ، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره ; أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار إليكم جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم صريح في أنه ورد بعد خلقه عليه الصلاة والسلام ، وتسويته ونفخ الروح فيه أمر منجز ، غير الأمر المعلق الوارد قبل ذلك بقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، وهو المراد بما حكي بقوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ... الآية في سورة البقرة ، وسورة بني إسرائيل ، وسورة الكهف ، وسورة طه ، من غير تعرض لوقته .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة " ثم " ههنا تقتضي تراخيه عن التصوير ، من غير تعرض لبيان ما جرى بينهما من الأمور ، وقد بينا في سورة البقرة أن ذلك ظهور فضل آدم عليه السلام بعد المحاورة المسبوقة بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله عز وجل : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة إلى قوله : وما كنتم تكتمون .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن ذلك أيضا من جملة ما نيط به الأمر المعلق من التسوية ونفخ الروح ، وعدم ذكره عند الحكاية لا يقتضي عدم ذكره عند وقوع المحكي ، كما أن عدم ذكر الأمر المعلق عند حكاية الأمر المنجز لا يستلزم عدم مسبوقيته به ، فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلفة يقتضيها ، ليست بعزيزة في الكلام العزيز ، فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميع ما يتوقف عليه الأمر المنجز إجمالا بأن قيل مثلا : إني خالق بشرا من طين ، وجاعل إياه خليفة في الأرض ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، وتبين لكم فضله ، فقعوا له ساجدين ; فخلقه فسواه ، فنفخ فيه من روحه ، فقالوا عند ذلك ما قالوا ، أو ألقي إليهم خبر الخلافة بعد تحقق الشرائط المذكورة بأن قيل إثر نفخ الروح : إني جاعل هذا خليفة في الأرض ، فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا ، فأيده الله تعالى بتعليم الأسماء ، فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمر المنجز اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا بوقته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حكي بعض الأمور المذكورة في بعض المواطن ، وبعضها في بعضها ، اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في موطن آخر ، والذي يرفع غشاوة الاشتباه عن البصائر السليمة ، أن ما في سورة ( ص ) من قوله تعالى : إذ قال ربك للملائكة الآيات ، بدل من قوله : إذ يختصمون فيما قبله من قوله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ; أي : بكلامهم عند اختصامهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ريب في أن المراد بالملأ الأعلى : الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس ، حسبما أطبق عليه جمهور المفسرين ، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن الخلافة من التقاول ، الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور في تضاعيف ما شرح فيه مفصلا من الأمر المعلق ، وما علق به من الخلق والتسوية ، ونفخ الروح فيه ، وما ترتب عليه من سجود الملائكة ، وعناد إبليس ولعنه ، وإخراجه من بين الملائكة ، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال ، وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ، ومكابرة إبليس وطرده من البين ، لما عرفت من أنه أحد المختصمين ، كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة ; فإذن هو بعد نفخ الروح وقبل السجود بأحد الطريقين المذكورين ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      فسجدوا ; أي : الملائكة عليهم السلام بعد الأمر من غير تلعثم .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا إبليس استثناء متصل [ ص: 216 ] لما أنه كان جنيا مفردا ، مغمورا بألوف من الملائكة ، متصفا بصفاتهم ، فغلبوا عليه فيه فسجدوا ، ثم استثني استثناء واحد منهم ، أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم : الجن ، كما مر في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله تعالى : لم يكن من الساجدين ; أي : ممن سجد لآدم ، كلام مستأنف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء ، فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجود ، وبه علم أنه لم يقع قط . وقيل : منقطع ; فحينئذ يكون متصلا بما بعده ; أي : لكن إبليس لم يكن من الساجدين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية