الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب اللعان وقول الله تعالى والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم إلى قوله إن كان من الصادقين فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو بإيماء معروف فهو كالمتكلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم وقال الله تعالى فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا وقال الضحاك إلا رمزا إلا إشارة وقال بعض الناس لا حد ولا لعان ثم زعم أن الطلاق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق فإن قال القذف لا يكون إلا بكلام قيل له كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق وكذلك الأصم يلاعن وقال الشعبي وقتادة إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته وقال إبراهيم الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه وقال حماد الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز

                                                                                                                                                                                                        4994 حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بخير دور الأنصار قالوا بلى يا رسول الله قال بنو النجار ثم الذين يلونهم بنو عبد الأشهل ثم الذين يلونهم بنو الحارث بن الخزرج ثم الذين يلونهم بنو ساعدة ثم قال بيده فقبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده ثم قال وفي كل دور الأنصار خير [ ص: 349 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 349 ] قوله ( باب اللعان ) هو مأخوذ من اللعن ، لأن الملاعن يقول " لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل ، وهو الذي بدئ به في الآية ، وهو أيضا يبدأ به ، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس ، وقيل سمي لعانا لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما ، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها ، لأن الرجل إذا كان كاذبا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف ، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به ، فتنتشر المحرمية ، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما . واللعان والالتعان والملاعنة بمعنى ، ويقال تلاعنا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما والرجل ملاعن والمرأة ملاعنة لوقوعه غالبا من الجانبين وأجمعوا على مشروعية اللعان وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقق . واختلف في وجوبه على الزوج ، لكن لو تحقق أن الولد ليس منه قوي الوجوب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقول الله تعالى : والذين يرمون أزواجهم إلى قوله إن كان من الصادقين ) كذا للأكثر ، وساق في رواية كريمة الآيات كلها ، وكأن البخاري تمسك بعموم قوله تعالى يرمون لأنه أعم من أن يكون باللفظ أو بالإشارة المفهمة ، وقد تمسك غيره للجمهور بها في أنه لا يشترط في الالتعان أن يقول الرجل رأيتها تزني ، ولا أن ينفي حملها إن كانت حاملا أو ولدها إن كانت وضعت خلافا لمالك ، بل يكفي أن يقول إنها زانية أو زنت ، ويؤيده أن الله شرع حد القذف على الأجنبي برمي المحصنة ، ثم شرع اللعان برمي الزوجة ، فلو أن أجنبيا قال يا زانية وجب عليه حد القذف ، فكذلك حكم اللعان . وأوردوا على المالكية الاتفاق على مشروعية اللعان للأعمى فانفصل عنه ابن القصار بأن شرطه أن يقول لمست فرجه في فرجها ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة ) بمثناة ثم موحدة ، وعند الكشميهني " بكتاب " بلا هـاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض ) أي في الأمور المفروضة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم ) أي من غيرهم ، وخالف الحنفية والأوزاعي وإسحاق ، وهي رواية عن أحمد اختارها بعض المتأخرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) أخرج ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران قال : لما قالوا لمريم لقد جئت شيئا فريا إلخ ، أشارت إلى عيسى أن كلموه ، فقالوا : تأمرنا أن نكلم من هو في المهد زيادة على ما جاءت به من الداهية ووجه الاستدلال به أن مريم كانت نذرت أن لا تتكلم فكانت في حكم الأخرس فأشارت إشارة مفهمة اكتفوا بها عن معاودة سؤالها وإن كانوا أنكروا عليها ما أشارت به ، وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك أن معنى قوله تعالى إني نذرت للرحمن صوما أي صمتا أخرجه الطبراني وغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الضحاك ) أي ابن مزاحم ( إلا رمزا إشارة ) وصله عبد بن حميد وأبو حذيفة في تفسير سفيان الثوري ولفظهما عنه في قوله تعالى آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا فاستثنى الرمز من [ ص: 350 ] الكلام فدل على أن له حكمه . وأغرب الكرماني فقال : الضحاك هو ابن شراحيل الهمداني ، فلم يصب فإن المشهور بالتفسير هو ابن مزاحم ، وقد وجد الأثر المذكور عنه مصرحا أنه ابن مزاحم ، وأما ابن شراحيل ويقال ابن شرحبيل فهو من التابعين لكن لم ينقلوا عنه شيئا من التفسير ، بل له عند البخاري حديثان فقط أحدهما في فضائل القرآن والآخر في استتابة المرتدين وكلاهما من روايته عن أبي سعيد الخدري قال : الرمز الإشارة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال بعض الناس لا حد ولا لعان ) أي بالإشارة من الأخرس وغيره ( ثم زعم إن طلق بكتابة أو إشارة أو إيماء جاز ) كذا لأبي ذر ، ولغيره أن الطلاق بكتابة إلخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وليس بين الطلاق والقذف فرق ، فإن قال القذف لا يكون إلا بكلام قيل له : كذلك الطلاق لا يكون إلا بكلام ) أي وأنت وافقت على وقوعه بغير الكلام فلزمك مثله في اللعان والحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وإلا بطل الطلاق والقذف ، وكذلك العتق ) يعني إما أن يقال باعتبار الإشارة فيها كلها أو بترك اعتبارها فتبطل كلها بالإشارة ، وإلا فالتفرقة بينهما بغير دليل تحكم ، وقد وافقه بعض الحنفية على هذا البحث وقال : القياس بطلان الجميع ، لكن عملنا به في غير اللعان والحد استحسانا ، ومنهم من قال : منعناه في اللعان والحد للشبهة لأنه يتعلق بالصريح كالقذف فلا يكتفى فيه بالإشارة لأنها غير صريحة ، وهذه عمدة من وافق الحنفية من الحنابلة وغيرهم ، ورده ابن التين بأن المسألة مفروضة فيما إذا كانت الإشارة مفهمة إفهاما واضحا لا يبقى معه ريبة ، ومن حجتهم أيضا أن القذف يتعلق بصريح الزنا دون معناه ، بدليل أن من قال لآخر وطئت وطئا حراما لم يكن قذفا لاحتمال أن يكون وطئ وطء شبهة فاعتقد القائل أنه حرام ، والإشارة لا يتضح بها التفصيل بين المعنيين ، ولذلك لا يجب الحد في التعريض ، وأجاب ابن القصار بالنقض عليهم بنفوذ القذف بغير اللسان العربي وهو ضعيف ، ونقض غيره بالقتل فإنه ينقسم إلى عمد وشبه عمد وخطأ ويتميز بالإشارة وهو قوي ، واحتجوا أيضا بأن اللعان شهادة وشهادة الأخرس مردودة بالإجماع ، وتعقب بأن مالكا ذكر قبولها فلا إجماع ، وبأن اللعان عند الأكثر يمين كما سيأتي البحث فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وكذلك الأصم يلاعن ) أي إذا أشير إليه حتى فهم ، قال المهلب : في أمره إشكال ، لكن قد يرتفع بترداد الإشارة إلى أن تفهم معرفة ذلك عنه . قلت : والإطلاع على معرفته بذلك سهل لأنه يعرف من نطقه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الشعبي وقتادة : إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته ) وصله ابن أبي شيبة بلفظ : سئل الشعبي فقال سئل رجل مرة أطلقت امرأتك قال فأومأ بيده بأربع أصابع ولم يتكلم ففارق امرأته . قال ابن التين : معناه أنه عبر عما نواه من العدد بالإشارة فاعتدوا عليه بذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال إبراهيم : الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ) وصله ابن أبي شيبة بلفظه ، وأخرجه الأثرم عن ابن أبي شيبة كذلك ، وأخرجه عبد الرزاق بلفظ الرجل يكتب الطلاق ولا يلفظ به أنه كان يراه لازما ، ونقل ابن التين عن مالك أن الأخرس إذا كتب الطلاق أو نواه لزمه ; وقال الشافعي : لا يكون طلاقا ، يعني أن كلا منهما على انفراده لا يكون طلاقا ، أما لو جمعهما فإن الشافعي يقول بالوقوع سواء كان ناطقا أم أخرس .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال حماد : الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز ) هو حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، فكأن البخاري أراد إلزام الكوفيين بقول شيخهم ، ولا يخفى أن محل الجواز حيث يسبق ما ينطبق عليه من الإيماء بالرأس الجواب . ثم ذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث تتعلق بالإشارة أيضا :

                                                                                                                                                                                                        الحديث الأول منها حديث [ ص: 351 ] أنس في فضل دور الأنصار وقد تقدم شرحه في المناقب ، فإنه أورده هناك من وجه آخر عن أنس عن أبي أسيد الساعدي ، وأورده هنا عن أنس بغير واسطة والطريقان صحيحان ، وفي زيادة أنس هذه الإشارة وليست في روايته عن أبي أسيد ، وفي رواية عن أبي أسيد من الزيادة قصة لسعد بن عبادة كما تقدم . والمقصود من الحديث هنا قوله " ثم قال بيده فقبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده " ففيه استعمال الإشارة المفهمة مقرونة بالنطق ، وقوله كالرامي بيده أي كالذي يكون بيده الشيء قد ضم أصابعه عليه ثم رماه فانتشرت . الحديث الثاني حديث سهل .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية