الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          البر في القصاص

                                                          يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون

                                                          * * *

                                                          هذا كلام في البر أيضا ، ذلك أن البر عمل موجب وعمل مانع ، أو عمل يبني الجماعات فيكون موجبا ، وعمل يحميها فيكون حاميا مانعا ، والأول تبين بقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب إلى [ ص: 531 ] آخر الآية ، والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن ، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها ، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس ، وتأريث الأحقاد ، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب ، فمن البر أيضا الضرب على أيدي المفسدين ، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا .

                                                          ولذا كانت آية القصاص في ترتيب التنزيل وراء آية البر ; لأن كليهما في بناء الجماعات الإسلامية ، ونفي ما يهدد بنيانها ، وإن العرب في الجاهلية كانوا لا يقتصون من الجاني ، وإنما يثأرون من القبيلة ، والدماء فيهم لا تتكافأ في نظر العصبية الجاهلية ، فماذا قتل رجل من عامة الناس رئيس قبيلة لا يقتل القاتل أو لا يكتفى بقتله ، بل يقتل من يكافئ رئيس القبيلة ، وقد يقتل بالواحد مئات لكي يتكافؤوا مع من قتل ، وهكذا كان قانون الغلب ، وقانون العصبية لا قانون القصاص العادل هو الذي يحكم ، وكان ذلك ناشئا من العصبية أولا ، وفرض التفاوت ثانيا ، والثأر الذي لا عدل فيه ثالثا .

                                                          جاء القرآن الكريم ليمحو هذه العادة الجاهلية ، وإثبات أن الناس جميعا سواء ، وأن المسلمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يكون أقوياء أمام من سواهم إلا بالعدل الذي لا يفرق بين شريف وضعيف .

                                                          [ ص: 532 ] وجاءت هذه الآية الكريمة لرد هذه العادة الأثيمة فقال تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وكتب معناها فرض فرضا مؤكدا مسجلا ، لا مرية فيه ، والفرضية على الجماعة الإسلامية كلها ، فيفرض على الحاكم أن يقتص من القاتل أو المقتول بشكل عام ، وفرض على القاتل أن يقدم نفسه ، وفرض على ولي الدم أن يطالب بالدم ، أو يعفو حتى لا يطل دم قط في الإسلام ، وفرض على الجماعة كلها أن يعين ولي الدم ليقتص القاضي من المعتدي ، ولو كان ولي الأمر ، فقد قرر الفقهاء على ضوء هذه الآية أن ولي الأمر ، ولو كان الجامعة الأعظم إذا قتل شخصا بغير حق ، وأراد ولي الأمر القصاص وجب على الأمة مجتمعة أن تعينه على القصاص فإنه لا يطل دم قط في الإسلام كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه .

                                                          والقصاص مصدر قاص ، وهو المساواة وتتبع الأثر ، وقد كتبه الله تعالى بأن يؤخذ الجاني بما جنى ، وتكون العقوبة مساوية للجريمة ، وأساس الإسلام في قواعده العامة ، وإن ذلك هو العدل ، وهو أردع للجاني ; لأنه إذا علم أنه سينزل مثل ما نزل بالجاني ، فإنه يتردد في الارتكاب ثم يعدل ، ولقد قال بعض علماء الاجتماع والقانون : إن العقوبة إذا اشتقت من الجريمة كانت رادعة إذ تجعل المجرم يحس بأنه نازل به مثل إجرامه .

                                                          وقد فصل الله تعالى حكم القصاص ، فقال تعالت كلماته : الحر بالحر أي الحر يقتل في مقابل الحر ، والعبد بالعبد والعبد يقتل في مقابل العبد ، والأنثى بالأنثى والأنثى تقتل في مقابل الأنثى .

                                                          هذا هو العدل ، وهو رد على الجاهليين الذين كانوا لا يسوون في الدماء ، فالعبد إذا قتل حرا من قبيلة أو الحر إذا قتل حرا من قبيلة ، وكان الأول من دهماء [ ص: 533 ] الناس ، وكان الثاني من أشرافهم لا يقتل به بل يبحث عمن يكافئه وربما لا يكافئه واحد ، وذلك من العصبية الجاهلية ، ومن نظام التفاوت الذي لا يزال يسري بين الناس مقيتا ، وإن كان مألوفا .

                                                          وبين القرآن حال المساواة في الوصف من حرية ورق ، وذكورة وأنوثة ، ولم يذكر إذا اختلف الوصف أو الجنس بأن قتل الحر العبد ، والعبد الحر ، والمرأة الرجل ، والرجل المرأة ، وذلك لأن النص سيق لإبطال العادة الجاهلية التي كانت تقتل غير القاتل ، وتتعدى القاتل إلى قبيلة ، وغير الشريف في زعمهم إذا كان هو القاتل إلى شرفائها ، فرد الله تعالى زعمهم ، وصحح الأمر في هذا المقام بالقصاص العادل .

                                                          أما التساوي في النفوس لا في الأوصاف ، فقد ثبت بقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف

                                                          وثبت أيضا بقوله تعالى بعد أن ذكر قصة ولدي آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل لأنهما قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، قال لأقتلنك إلى أن قال : فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله بعد هذه القصة التي تصور الاعتداء في أقبح صوره ، قال الله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا

                                                          وقد تقرر بذلك القصاص على أساس تساوي النفوس ، وعلى ذلك يقتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، والعبد بالحر ، والحر بالعبد .

                                                          ولكن ترد هنا أسئلة من حيث شمول هذه الآية ، والآيات التي تلونا للصور الآتية :

                                                          أولا : تكافؤ الدم بين المسلم والذمي ، أيقتل المسلم بالكافر ؟ ، قد اتفقوا على أن الكافر إذا قتل المسلم قتل به ، ولكن كان الأكثرون على ألا يقتل المسلم بالكافر لما [ ص: 534 ] ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقتل مسلم بكافر " ولعدم التكافؤ بين دم في أصله مباح ، ودم في أصله حرام .

                                                          قال أبو حنيفة والثوري : يقتل المسلم بالكافر إذا قتله عمدا بمحدد ; وذلك لأننا أخذنا عليهم العهد بأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، ولأننا أعطيناهم العهد بحقن دمائهم ولو لم يقتص لهم لكان في ذلك إخلال بالعهد ، ولأنهم وقد عقدوا الذمة معنا صار دمهم حراما كدمنا ، ولأننا إذا وجد من يسرق الذمي قطعنا يده ، ومؤدى ذلك أن ماله غير مباح فبالأولى دمه .

                                                          ثانيا : إذا قتل الحر العبد أيقتص منه ؟ قال جمهور الفقهاء : لا يقتص لأنهما ليسا سواء فالعبد مملوك والحر مالك ولأنه لا ند ، والعبد شيء يقوم بقيمته فإذا قتل به الحر وهو ليس بمال لا يكون عدلا ، لأن الإنسان لا يقتل في نظير مال .

                                                          ولكن قال الإمام أحمد ونفاة القياس والثوري وبعض الكوفيين : إن الحر يقتل بالعبد إذا قتله ; لأنه نفس والإسلام جعل أساس القصاص المساواة في النفوس ، وقال عليه الصلاة والسلام : " النفس بالنفس " وهؤلاء الذين قالوا إن الحر يقتل بالعبد قالوا : إن المالك يقتل إن قتل عبده ، لما ذكرنا ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي وأبو داود : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جدعه جدعناه ، ومن أخصاه خصيناه " وقد أخذ به البخاري وارتأى ما اشتمل عليه الخبر صحيحا ، فكان تصحيحا ضمنيا له .

                                                          [ ص: 535 ] ولما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من إكرام للرقيق ، وفوق ذلك فإن الأساس هو المساواة في النفس ، وهي ثابتة فكان القصاص حقا على الحر إذا قتل عبدا ، وعلى المالك إذا قتل عبده .

                                                          ثالثا : إذا قتل الجماعة واحدا فهل يؤخذون به ; فجمهور الفقهاء أقروا على أنهم يقتلون به لأنه ما داموا قد اشتركوا في القتل فقد قتل كل واحد منهم فيؤخذ بحكم القصاص ، وإن تعددوا ، وبهذا الاعتبار يكون التساوي لا بين الجماعة مجتمعين ، بل بين كل واحد منهم ، واستحق كل واحد منهم القصاص عليه .

                                                          ولأنه لو لم نقتل الجماعة بالواحد ، لأهدرت الدماء ، وإذا رأى واحد قتل شخص فقد تضافر مع غيره من الآثمين فيقتلون ، وإن الآثار من الصحابة قد أقرت قتل الجماعة بالواحد ، وقد روي عن الإمام عمر رضي الله تعالى عنه أن سبعة قتلوا واحدا ، فقتلهم به ، وقال كلمة حازمة : لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم به .

                                                          وقتل علي كرم الله وجهه جماعة من الخوارج لقتل عبد الله بن خباب بن الأرت ، فإنه عندما أخبر الإمام علي بذلك قال الله أكبر ، فدعاهم وقال لهم : أخرجوا إلينا قاتل عبد الله ، فقالوا : كلنا قتلناه ، ثلاث مرات ، فقال الإمام لأصحابه : دونكم القوم . فما لبث أن قتلهم .

                                                          واقتص علي كرم الله وجهه بذلك من قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت ، هذا ما نرى أن الأخذ بالقصاص في الآية ينطبق عليه ، وثمة فروع في القصاص كقتل الرجل ولده وعدم جواز القصاص بتركه ، لأنه ليس تطبيقا للآية ، ولكنه أخذ بحديث .

                                                          والقصاص بإجماع الفقهاء كما قرر القرطبي في أحكام القرآن يتولاه ولي الأمر بطلب ولي الدم ، لقوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا

                                                          [ ص: 536 ] ( العفو )

                                                          والآية الكريمة فتحت باب العفو ، وهو من سلطان ولي الدم ، فقال تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان

                                                          وفي هذا النص تحريض على العفو ، لكيلا تنهار دماء المسلمين ، ولكيلا تتأرث الأحقاد ، ولينسل البغض ويعود التسامح بين المسلمين ، ولأن جعل الحق للولي في القصاص يرهب الجاني ، وقد يكون القصاص ضارا لولي الدم ، كرجل قتل أخاه ، وولي الدم أبوهما فإنه إن كان القصاص ، وأغلق باب العفو ، فإن الأب المكلوم يفقد الولدين معا .

                                                          ولذلك كان من التخفيف والرحمة أن يكون حق القصاص قابلا للعفو ، وإنه إذا كان العفو كانت الدية كما قال كثيرون من الفقهاء ، ودل على ذلك قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وهذا يدل ضمنا على وجوب الدية ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " أيما عبد أصيب بقتل أو خبل - أي جرح - فله إحدى ثلاث : القصاص أو الدية أو العفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه " .

                                                          وقوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء يدل على ثلاثة أمور :

                                                          أولها : التحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة التي لم يقطعها الاعتداء ; لأنها برباط الله تعالى فلا يفكه العبد .

                                                          ثانيها : أن أي قدر من العفو يسقط القصاص ، فلو تعدد الأولياء في درجة واحدة ، وعفا أحدهم سقط القصاص .

                                                          [ ص: 537 ] ثالثها : أن التعبير بالبناء للمجهول يدل على تلمس العفو .

                                                          ثم قال تعالى : فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان

                                                          أي إذا كان العفو ، فالأمر ينتقل من إراقة دم جديد إلى أن يكون اتباعا للقاتل من غير إرهاق بالملازمة ، بل بالأمر الذي لا يستنكر في العرف وتتعاون أسرة القاتل في أدائه من غير غباب ، وهذا من جانب ولي الدم ، ومن جانب القاتل وأسرته يكون الواجب هو الأداء بإحسان ، أي تكون نفوسهم سمحة ، ويؤدون الدية في مواقيتها من غير لي ، والإحسان الإجادة والإتقان وهو في مثل هذا المقام يكون بالمسارعة في الأداء والسماحة ولا مانع من الزيادة تطييبا للنفوس المكلومة .

                                                          والنص الكريم يفيد بالإشارة إلى أن الدية بدل من القصاص عند العفو ، ولذلك ذكرت مترتبة عليه ، وكأنه إذا كان العفو ننتقل من القصاص صورة ومعنى بقتل القاتل ، إلى القصاص معنى وهو الدية ، فالقصاص ثابت في الحالين ، وإن اختلف الشكل .

                                                          ولقد قال تعالى : ذلك تخفيف من ربكم ورحمة الإشارة إلى العفو بعد وجوب القصاص ، فهو تخفيف من عنف القتل قصاصا ، الذي يفزع النفوس ، ويزعج وهو قاس ; إذ يقدم للقود في وقت لا يكون فيه انفعال مغيظ محنق ، بل في صبر وأناة ، وذلك يكون أشد وأعنف ، وفيه رحمة بالجاني ، إذ خرجت رقبته من القتل الذريع إلى الفداء بمال ، ورحمة بالعافي إذ به يتخلص من الأحقاد ، وأضغانها ، وقد يكون فيه رحمة خاصة بأسرته ، على النحو الذي ذكرناه ، ورحمة بالأمة لكونه بدل أن ينقص عددها اثنين ينقص إلى واحد ، وبدل أن تتبادل الدماء تنتهي المعركة .

                                                          وإن ذلك لا يسوغ الاعتداء ولا يسهله ، ولا يفتح الباب لاعتداء جديد ، بعد أن أفلتت الرقبة من ضرب سيف قاطع ، ولذا قال تعالى : فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم أي فمن اعتدى بعد العفو والدية ، وبعد شرعية القصاص العادل ، فله عذاب أليم في الدنيا ، وله عذاب أليم أي مؤلم في الآخرة ، ولقد فهم بعض الفقهاء [ ص: 538 ] أن عذابه في الدنيا أن يحرم من رحمة العفو ، وتحقيقه ; ولذلك قرر كثيرون من الفقهاء أنه إذا عاد المعفو عنه في قصاص إلى القتل مرة أخرى ، فإنه يكون من المفسدين ، فيقتل حدا وليس قصاصا ، وذلك لأنه قد يكون من الشطار الذين اعتادوا الاعتداء على الأنفس ، وإرهاب النفس ، ويكون عفو الولي رهبة منه لا رغبة ، فعندئذ يكون القتل لمنع فساده ، ولقطع طريق الشر ، ولذلك لا يكون محلا للعفو إذ يكون تمكينا من الشر .

                                                          وهنا نلاحظ أن فتح باب العفو ، وأن يكون القصاص بطلب ولي الدم يخالف القوانين القائمة على أن جريمة الدماء تكون اعتداء على الجماعة ، ويكون المجني عليه شاهدا ، وليس صاحب الحق الأول ، وإن العدل هو في النظرية الشرعية التي تعتبر الجريمة ابتداء متجهة إلى أسرة المجني عليه ، وعن طريقها تتجه إلى الجماعة ، وذلك تمكين للأسرة من أن تنال حقها ، وردع للأشرار عن طريق القصاص ، أو التمكين منه ، ويكون منعا للثارات والفساد في الأرض ، والعقوبة واحدة ، القصاص صورة ومعنى أو صورة فقط ، ولا يفتح باب للتخفيف من عقوبة أشد إلى أخف منها إلا بإرادة المجني عليه ، فيكون ذلك أمنع له من أن يفكر في ثأر ، أو يكون في نفسه غيظ مكظوم دفين .

                                                          وإن شرعية القصاص على النحو الذي ذكره القرآن الكريم فيه حفظ للأنفس ، وإشاعة للطمأنينة في النفوس وإرهاب للعصاة المتمردين على المجتمع ، وإحساس بالراحة ; ولذلك قال تعالى : ولكم في القصاص حياة وإن هذه الكلمات السامية أبلغ تعبير عن آثار شرعية القصاص في الأمة .

                                                          والقصاص كلمة عامة يشمل القصاص في الأنفس الذي اختصت به آية القصاص ، إذ قال تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى أما في هذه الآية ولكم في القصاص حياة فإن القصاص يشمل الأنفس والأطراف والجروح ، كما قال تعالى في سورة المائدة ، بل يشمل القصاص في الضرب واللطم على ما حققه فقهاء السلف ، وأخذ به الإمام أحمد .

                                                          [ ص: 539 ] وفي قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة تعميم للقصاص مع تعريفه بأل التي تفيد الاستغراق ، وتنكيره لكلمة حياة ، والتنكير هنا للتعظيم ، أي حياة سعيدة هادئة مطمئنة خالية من عبث السفاكين ، واعتداء المعتدين واستهزاء المستهزئين هي حياة كريمة تظهر فيها الفضيلة ، وتختفي فيها الرذيلة ، تحترم فيها الحقوق ، وتحقق فيها الواجبات ; يقام فيها العدل ، ويختفي فيها الظلم ، ويتحقق الاجتماع ، ولا يكون التنابذ والافتراق فلا شيء يربط الحياة بين الجماعات والآحاد سوى العدل والحق .

                                                          وكلمة الله السامية : ولكم في القصاص حياة اشتملت على إيجاز القصر البليغ إلى ما لا يصل إليه إلا كلام رب العالمين ، ولقد كان هناك مثل سائر في العرب ، يقولون إنه أبلغ الكلام في إيجازه ، وأعمقه في أدائه ، وهو قولهم : " القتل أنفى للقتل " ، وعقد بعض العلماء موازنة بينها ، وبين الجملة السامية ولكم في القصاص حياة وقد استنكر ابن الأثير هذه الموازنة ; لأنه لا يوزن كلام الله تعالى بكلام أحد من الناس ، وعقد هواة الموازنة ربما يكون فيها تنزيل من مقام المعجز الذي لا يستطيع أحد من البشر أو الجن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

                                                          وإن الموازنة انتهت بأنه لا يمكن المماثلة بين كلام العرب وكلام الله تعالى ، وأنه بالنظرة العابرة نرى كلام الله تعالى في مكانة وكلام العرب في دركه ، فنجد أولا التكرار في لفظ " القتل أنفى للقتل " ، ولا تكرار في قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة ونجد أن الآية تدل على القصاص العادل ، و " القتل أنفى للقتل " لا تدل على القتل العادل ، بل تدل على مجرد القتل ، ونجد أن القصاص يشمل القتل وقطع الأطراف ، بينما كلمة العرب لا تدل إلا على القتل فقط ، ونجد أن لفظ العرب لا يدل على حياة الجماعة ، بينما أن النص القرآني السامي لا يدل فقط على نفي القتل بل يدل على قيام الحياة الكريمة من هذا القصاص العادل ، وإن المقابلة بين القصاص والحياة الكريمة تبين منزلة العدالة في القصاص .

                                                          [ ص: 540 ] وهكذا نجد أوجه الإعجاز في هذا الإيجاز بما لا يمكن أن يصل إليه كلام مهما بلغت مكانته من البيان عندهم ، فهي بلاغة تليق بكلام الإنسان ، وتتقاصر عن أن تصل إلى كلام الديان ، وكلام الناس يجري في مساره ، ولا يصل إلى برج القرآن الأقدس ، تعالت كلماته وتعالى منزله .

                                                          ولقد قال تعالى مخاطبا الذين يدركون ما في القصاص من ثمرة وهي الحياة العزيزة الآمنة الطاهرة من رجس الآثام وفسق الفساق واعتداء المعتدين ، فقال تعالى : يا أولي الألباب الألباب جمع لب وهو العقل المدرك الذي لا يكتفي في إدراكه بمظاهر الأمور ، فهؤلاء أصحاب الألباب التي تغوص إلى الحقائق فتدركها .

                                                          ثم قال سبحانه وتعالى : لعلكم تتقون ولعل هنا للرجاء والرجاء من الناس لا من الله تعالى ، فالتقوى منهم وهو سبحانه وتعالى يتقبلها ويقرب بها عباده إليه سبحانه وتعالى ، والتقوى رجاء من عند الله تعالى أن يتقوا بها عذاب النار وأن يتقوا في جماعتهم كل ما يفرقها ، ويعملوا على أن يقوا من شر فسق الفاسقين واعتداء المعتدين والله سبحانه وتعالى ولينا ، وهو نعم المولى ونعم النصير .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية