الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ؛ [ ص: 183 ] ما كانت تتلوه؛ والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر؛ فلبهت اليهود وكذبهم ادعوا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان ؛ وأنه اسم الله الأعظم؛ يتكسبون بذلك؛ فأعلم الله - عز وجل - أنهم رفضوا كتابه؛ واتبعوا السحر؛ ومعنى " على ملك سليمان " : على عهد ملك سليمان عليهم؛ فبرأ الله - عز وجل - سليمان من السحر؛ وأظهر محمدا - صلى الله عليه وسلم - على كذبهم؛ وقال: وما كفر سليمان ؛ لأن الله جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفرا؛ فبرأه منه؛ وأعلم أن الشياطين كفروا؛ فقال: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ؛ فمن شدد " لكن " ؛ نصب " الشياطين " ؛ ومن خفف؛ رفع؛ فقال: " ولكن الشياطين كفروا " ؛ وقد قرئ بهما جميعا؛ وقوله - عز وجل -: يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ؛ وقد قرئ: " على الملكين " ؛ و " الملكين " ؛ أثبت في الرواية والتفسير جميعا؛ المعنى: يعلمون الناس السحر؛ ويعلمون ما أنزل على الملكين؛ فموضع " ما " : نصب؛ نسق على " السحر " ؛ وجائز أن يكون " واتبعوا ما تتلو الشياطين؛ واتبعوا ما أنزل على الملكين " ؛ فتكون " ما " ؛ الثانية عطفا على الأولى؛ وقوله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ؛ فيه غير قول؛ أحدها - وهو أثبتها - أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر؛ و " علمت " ؛ و " أعلمت " ؛ جميعا في اللغة بمعنى واحد؛ كانا يعلمان نبأ السحر؛ ويأمران باجتنابه؛ وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلا لو سأل: ما الزنا؟ وما [ ص: 184 ] القذف؟ لوجب أن يوقف؛ ويعلم أنه حرام؛ فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس؛ وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام؛ يدل على ما وصفنا؛ فهذا مستقيم بين؛ ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا؛ إنما يكون العمل به كفرا؛ كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه؛ وإنما يأثم بالعمل به.

                                                                                                                                                                                                                                        وفيه قول آخر: جائز أن يكون الله - عز وجل - امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت؛ وجعل المحنة في الكفر؛ والإيمان؛ أن يقبل القابل تعلم السحر؛ فيكون بتعلمه كافرا؛ وبترك تعلمه مؤمنا؛ لأن السحر قد كان كثر؛ وكان في كل أمة؛ والدليل على ذلك أن فرعون فزع في أمر موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر؛ فقال: " ائتوني بكل ساحر عليم " ؛ وهذا ممكن أن يمتحن الله به؛ كما امتحن بالنهر؛ في قوله: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ؛ وقد قيل: إن السحر ما أنزل على الملكين؛ ولا أمرا به؛ ولا أتى به سليمان - عليه السلام -؛ فقال قوم: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين " ؛ فيكون " ما " ؛ جحدا؛ ويكون " هاروت " ؛ و " ماروت " ؛ من صفة الشياطين؛ على تأويل هؤلاء؛ كان التأويل عندهم على مذهب هؤلاء: " كان الشياطين هاروت وماروت " ؛ ويكون معنى قولهما - على مذهب هؤلاء -: " إنما نحن فتنة فلا تكفر " ؛ كقول الغاوي والخليع: " أنا في ضلال؛ فلا ترد ما أنا فيه " ؛ فهذه ثلاثة أوجه؛ والوجهان الأولان أشبه بالتأويل؛ وأشبه بالحق؛ عند كثير من أهل اللغة؛ والقول الثالث له وجه؛ إلا أن الحديث؛ وما جاء في قصة الملكين؛ أشبه وأولى أن يؤخذ به؛ [ ص: 185 ] وإنما نذكر مع الإعراب المعنى؛ والتفسير؛ لأن كتاب الله ينبغي أن يتبين؛ ألا ترى أن الله يقول: أفلا يتدبرون القرآن ؟! فحضضنا على التدبر؛ والنظر؛ ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة؛ أو ما يوافق نقلة أهل العلم؛ والله أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية؛ فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها؛ وتكلم جماعة منهم؛ وإنما تكلمنا على مذاهبهم؛ وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر؛ إلا أنه يفرق به بين المرء؛ وزوجه؛ فهو من باب السحر في التحريم؛ وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: فيتعلمون منهما ؛ ليس " يتعلمون " ؛ بجواب لقوله: " فلا تكفر " ؛ وقد قال أصحاب النحو - في هذا - قولين: قال بعضهم: إن قوله: " يتعلمون " ؛ عطف على قوله: " يعلمون " ؛ وهذا خطأ؛ لأن قوله: " منهما " ؛ دليل - ههنا - على أن التعلم من الملكين خاصة؛ وقيل: " فيتعلمون " ؛ عطف على ما يوجبه معنى الكلام؛ المعنى: " إنما نحن فتنة فلا تكفر " : " فلا تتعلم؛ ولا تعمل بالسحر؛ فيأبون؛ فيتعلمون " ؛ وهذا قول حسن؛ والأجود في هذا أن يكون عطفا على " يعلمان " ؛ " فيتعلمون " ؛ واستغني عن ذكر " يعلمان " ؛ بما في الكلام من الدليل عليه. [ ص: 186 ] وقوله - عز وجل -: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ؛ الإذن - هنا - لا يكون الأمر من الله - عز وجل -؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء؛ ولكن المعنى: " إلا بعلم الله " . وقوله - عز وجل -: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ؛ المعنى: إنه يضرهم في الآخرة؛ وإن تعجلوا به في الدنيا نفعا.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ؛ الخلاق: النصيب الوافر من الخير؛ ويعني بذلك الذين يعلمون السحر؛ لأنهم كانوا من علماء اليهود.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ؛ فيه قولان: قالوا: " لو كانوا يعلمون " ؛ يعني به الذين يعلمون السحر؛ والذين علموا أن العالم به لا خلاق له؛ هم المعلمون؛ قال أبو إسحاق : والأجود عندي أن يكون " لو كانوا يعلمون " ؛ راجعا إلى هؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة؛ أي: لمن علم السحر؛ ولكن قيل: " لو كانوا يعلمون " ؛ أي: لو كان علمهم ينفعهم لسموا عالمين؛ ولكن علمهم نبذوه وراء ظهورهم؛ فقيل لهم: " لو كانوا يعلمون " ؛ أي: ليس يوفون العلم حقه؛ لأن العالم؛ إذا ترك العمل بعلمه؛ قيل له: " لست بعالم " ؛ ودخول اللام في " لقد " ؛ على جهة القسم؛ والتوكيد؛ وقال النحويون - في " لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " - قولين: جعل بعضهم " من " ؛ بمعنى [ ص: 187 ] الشرط؛ وجعل الجواب " ما له في الآخرة من خلاق " ؛ وهذا ليس بموضع شرط؛ ولا جزاء؛ ولكن المعنى: " ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " ؛ كما تقول: " والله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل " ؛ فأما دخول اللام في الجزاء؛ في غير هذا الموضع؛ وفيمن جعل هذا موضع شرط؛ وجزاء؛ مثل قوله: ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ؛ ونحو: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ؛ فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة؛ لأنك إنما تحلف على فعلك؛ لا على فعل غيرك؛ في قولك: " والله لئن جئتني لأكرمنك " ؛ فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم؛ فأجيبت بجوابه؛ وهذا خطأ؛ لأن جواب القسم ليس يشبه القسم؛ ولكن اللام الأولى دخلت إعلاما أن الجملة بكمالها معقودة للقسم؛ لأن الجزاء؛ وإن كان للقسم عليه؛ فقد صار للشرط فيه حظ؛ فلذلك دخلت اللام.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية