الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        44 44 - مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري ، أنها أخبرتها : أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا . فجاءت هرة لتشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت . قالت كبشة : فرآني أنظر إليه . فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قالت : [ ص: 112 ] فقلت ، نعم . فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات " .

                                                                                                                        1612 - قال مالك : لا بأس به ، إلا أن يرى على فمها نجاسة .

                                                                                                                        [ ص: 113 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 113 ] 1613 - هكذا قال يحيى : حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، ولم يتابعه أحد على قوله ذلك ، وهو غلط منه .

                                                                                                                        1614 - وأما سائر رواة الموطأ فيقولون : حميدة بنت عبيدة بن رفاعة .

                                                                                                                        [ ص: 114 ] 1615 - إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك : حميدة بنت عبيدة بن رافع .

                                                                                                                        1616 - والصواب : رفاعة بن رافع الأنصاري .

                                                                                                                        1617 - وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يجب من ذكره هناك .

                                                                                                                        1618 - وانفرد يحيى أيضا بقوله : عن خالتها كبشة ، وسائر رواة الموطأ يقولون : عن كبشة ، ولا يذكرون خالتها .

                                                                                                                        1619 - واختلف في رفع الحاء ونصبها من حميدة : فبعضهم يقول : حميدة وبعضهم يقول : حميدة وهو الأكثر .

                                                                                                                        1620 - وتكنى حميدة : أم يحيى ، وهي امرأة إسحاق بن عبد الله بن طلحة .

                                                                                                                        1621 - كذلك ذكر يحيى القطان في هذا الحديث عن مالك .

                                                                                                                        1622 - وقد ذكرناه بإسناده ومتنه في التمهيد .

                                                                                                                        1623 - وكذلك قال فيه ابن المبارك عن مالك ، إلا أنه قال : كبشة امرأة أبي قتادة ، وهذا وهم . وإنما هي امرأة ابن أبي قتادة .

                                                                                                                        [ ص: 115 ] 1624 - وفي هذا الحديث إباحة اتخاذ الهر لانتفاع به ، ومعلوم أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه ، إلا ما خص بدليل وهو الكلب الذي نهي عن ثمنه .

                                                                                                                        1625 - وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه ، وأن سؤره طاهر .

                                                                                                                        1626 - وهذا قول : مالك ، والشافعي ، وأصحابهما والأوزاعي ، وأبي يوسف القاضي ، والحسن بن صالح بن حي .

                                                                                                                        1627 - فإن ظهرت في فمه نجاسة في الماء الذي شرب منه فالجواب فيه ما مضى في الحديث الذي قبل هذا عن العلماء على أصولهم في الماء .

                                                                                                                        1628 - وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر ، لأنه من الطوافين علينا .

                                                                                                                        1629 - ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ، ومنه قوله تعالى في الأطفال : طوافون عليكم بعضكم على بعض [ النور : 58 ] ولذلك قال ابن عباس في الهر : إنها من متاع البيت .

                                                                                                                        1630 - وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك في التمهيد .

                                                                                                                        1631 - وطهارة الهر دالة على أنه ليس في حي نجاسة إلا ما قام الدليل على نجاسة عينه بالتحريم ، وهو الخنزير وحده ، وأن النجاسة إنما هي في الميتات والأبوال والعذرات وإذا لم يكن في حي نجاسة بدليل ما وصفنا دل ذلك [ ص: 116 ] على أن الكلب ليس بنجس ، وأنه لا نجاسة في عينه ، لأنه من الطوافين علينا وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والزرع والماشية ، فيقاسه الهر .

                                                                                                                        1632 - وإذا صح هذا صح أن الأمر بغسل الإناء من ولوغه سبعا ، عبادة لا لنجاسة .

                                                                                                                        1633 - وسيأتي القول في هذا المعنى عند حديث الكلب إن شاء الله .

                                                                                                                        1634 - وقد روي عن عائشة عن النبي - عليه السلام - : " أنه كان تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ، ثم يتوضأ بفضلها " ، وهو حديث لا بأس به .

                                                                                                                        1635 - وكذلك حديث أبي قتادة هذا لا بأس بإسناده أيضا .

                                                                                                                        1636 - وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ولا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب : العباس بن عبد المطلب ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وأبو قتادة ، والحسن ، والحسين ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وعكرمة ، وعمار بن ياسر .

                                                                                                                        1637 - واختلف في ذلك عن أبي هريرة ، والحسن البصري : فروى عطاء [ ص: 117 ] عن أبي هريرة : أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا ، وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال : السنور من أهل البيت .

                                                                                                                        1638 - وروى أشعث ، عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور .

                                                                                                                        1639 - وروى يونس ، عن الحسن أنه قال : يغسل الإناء من ولوغه ، وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه .

                                                                                                                        1640 - ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله روي عنه في الهر : أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه .

                                                                                                                        1641 - وأما التابعون ؛ فروينا عن عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين : أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر ، وغسل الإناء منه .

                                                                                                                        1642 - وسائر التابعين بالحجاز ، والعراق ، يقولون في الهر : إنه طاهر لا بأس بالوضوء من سؤره .

                                                                                                                        1643 - وروى الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، عن ابن المسيب ، والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر .

                                                                                                                        1644 - قال الوليد : فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، فقالا : توضأ ، فلا بأس به وإن وجدت غيره .

                                                                                                                        [ ص: 118 ] 1645 - وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من أهل الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا : إنه لا بأس بسؤر السنور ، اتباعا للحديث الذي رويناه ، يعني عن أبي قتادة عن النبي - عليه السلام - .

                                                                                                                        1646 - قال : وممن ذهب إلى ذلك مالك في أهل المدينة ، والليث [ ص: 119 ] في أهل مصر ، والأوزاعي في أهل الشام ، وسفيان الثوري فيمن وافق من أهل العراق ، وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبي ثور ، وإسحاق ، وأبي عبيدة .

                                                                                                                        1647 - قال : وكان النعمان يكره سؤره ، وقال : إن توضأ به أجزأه ، وخالفه أصحابه ، وقالوا : لا بأس به .

                                                                                                                        1648 - قال أبو عمر : ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا ، وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده ، وأما محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والحسن بن زياد وغيرهم فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة ، وأكثرهم يروون أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ، ويحتجون لذلك .

                                                                                                                        1649 - ويروى عن أبي هريرة ، وابن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر ، وهو قول ابن أبي ليلى .

                                                                                                                        1650 - وقد اختلف أيضا عن الثوري في سؤر الهر ، وذكر في " جامعه " أنه يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه . وهو ممن يكره أكل الهر .

                                                                                                                        1651 - وذكره المروزي قال : حدثنا عمرو بن زرارة ، قال حدثنا أبو النضر ، قال حدثني الأشجعي ، عن سفيان ، قال : لا بأس بفضل السنور .

                                                                                                                        1652 - ولا أعلم لمن كره سؤره حجة من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة ، أو لم يصح عنده ، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب ، فقاس الهر على الكلب .

                                                                                                                        [ ص: 120 ] 1653 - ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين " .

                                                                                                                        1654 - شك قرة .

                                                                                                                        1655 - وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة وحده ، وقرة ثقة ثبت إلا أنه خالفه فيه غيره ، فرووه عن ابن سيرين عن أبي هريرة قوله .

                                                                                                                        1656 - وفي هذا الحديث ما يدل أن أبا قتادة مذهبه أن الماء اليسير تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه ، لأنه احتج على المرأة التي تعجبت من [ ص: 121 ] إصغائه الإناء للهر بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها ليست بنجس " ، فلو كانت عنده تنجس ما أصغى لها الإناء ، لأنها كانت تفسده .

                                                                                                                        1657 - ومعلوم أن شرب الهر لا يظهر منه في الإناء ما يغيره .

                                                                                                                        1658 - وقد مضى القول في الماء وما في حكمه عند حلول النجاسة فيه كثيرا أو قليلا عند العلماء في الحديث قبل هذا ، والحمد لله .

                                                                                                                        1659 - ومعنى إصغاء أبي قتادة للهرة الإناء لتشرب منه : امتثال ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في كل ذي كبد رطبة أجر " .

                                                                                                                        1660 - ولما كانت الهرة وهي سبع يفترس ويأكل الميتة - أنه ليس بنجس دل ذلك أن كل حي لا نجاسة فيه ما دام حيا حاشى الخنزير المحرم العين ، فإنه قد [ ص: 122 ] اختلف فيه : فقيل : إنه إذا ماس الماء أفسده وهو حي وقيل : إنه لا يفسده على حديث عمر في السباع .

                                                                                                                        1661 - وظاهر قوله - عليه السلام - : " الماء لا ينجسه شيء " يعني إلا ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة ، بدليل الإجماع على ذلك .

                                                                                                                        1662 - وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول .

                                                                                                                        1663 - وكذلك الطير كله : ما أكل منه الجيف ، وما لم يأكل ، لا بأس بسؤره إلا أن تكون في فمه نجاسة تغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهر .

                                                                                                                        1664 - وقد روي عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يغسل شيء من أثرها .

                                                                                                                        1665 - وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة ، وإنما النجاسة في الميت ، وفيما ثبت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها : كالبول ، والغائط ، وسائر ما يخرج من المخرجين ، والخمر .

                                                                                                                        1666 - وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان ، والزنبور ، والعقرب ، والجعلان ، والصرار ، والخنفساء ، ومن أشبه ذلك .

                                                                                                                        [ ص: 123 ] 1667 - والأصل فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه " ومنهم من يرويه فليمقله ، والمعنى سواء .

                                                                                                                        1668 - وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد .

                                                                                                                        1669 - ومعلوم أن الذباب مع ضعف خلقه إذا غمس في الماء والطعام مات فيه .

                                                                                                                        1670 - قال إبراهيم النخعي : ما ليس له نفس سائلة فليس بنجس ، يعني بالنفس الدم .

                                                                                                                        1671 - وقد رخص قوم في أكل دود التين ، وما في الطعام من السوس ، وفراخ النحل . واستجازوا ذلك لعدم النجاسة فيه .

                                                                                                                        [ ص: 124 ] 1672 - وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم ، وقالوا : لا يؤكل شيء من ذلك ؛ لأنه ليس له حلق ولا لبة فيذكى ، ولا من صيد الماء فيحل بغير التذكية .

                                                                                                                        1673 - واحتجوا بحديث النبي - عليه السلام - في حديث الذباب : " فليغمسه ثم ليطرحه " ، وقالوا : لو كان مباحا لم يأمر بطرحه .

                                                                                                                        1674 - وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون : لا يؤكل طعام ماتا فيه أو أحدهما ، لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان .

                                                                                                                        1675 - وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أصحاب سحنون يقول : إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب ، وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز ، وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفأرة .

                                                                                                                        1676 - قال غيره من أصحابنا : أما البراغيث فهي كالذباب ، وكلاهما متناول للدم ويعيش منه .

                                                                                                                        1677 - وأما القملة فهي من الإنسان كدمه ، والدم ما لم يكن مسفوحا لا يقطع بتحريمه وإن كره .

                                                                                                                        [ ص: 125 ] 1678 - قال أبو عمر : الذي أقول إن ما لا دم له ولا دم فيه وإن كان يعيش من الدم فالأصل فيه حديث الذباب ، وأما ما ظهر فيه الدم فهو نجس يعتبر فيه ما أوضحنا من أصول العلماء في الماء ، وفي قليل الدم وكثيره .

                                                                                                                        1679 - وأما الماء فقليل النجاسة يفسده ، وليس كالماء الذي جعله الله طهورا مطهرا طاهرا ، وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية