الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا . الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في "الدلائل"، والخطيب عن ابن عباس في [ ص: 95 ] قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك قال : تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس ، أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح، قالوا :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 96 ] أجل فادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن هذا الرجل - فوالله - ليوشكن أن يواتيكم في أمركم بأمره، فقال قائل : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير ونابغة فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رأيه من محبسه لأصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظروا في غير هذا الرأي، فقال قائل منهم : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما يستمع من حديثه والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن [ ص: 97 ] إليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا : صدق - والله - فانظروا رأيا غير هذا، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى أبصرتموه بعد ما أرى غيره، قالوا : وما هذا؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما وسيطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه - يعني ضربة رجل واحد - فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي : هذا - والله - هو الرأي القول ما قال الفتى لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك في الخروج وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال فأنزل الله : أذن للذين يقاتلون [الحج : 39] فكانت هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب، [ ص: 98 ] وأنزل عليه بعد قدومه المدينة يذكر نعمته عليه : وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سنيد، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه، أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال : من حدثك بهذا؟ قال : ربي، قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا، قال : أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال : من حدثك بهذا؟ قال : ربي، قال : نعم الرب ربك فاستوص به خيرا، قال : أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي : فنزلت : وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج : وإذ يمكر بك الذين كفروا [ ص: 99 ] قال عكرمة : هي مكية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأيام سئل عن يوم السبت فقال هو يوم مكر وخديعة، قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : فيه مكرت قريش في دار الندوة إذ قال الله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في قوله : ليثبتوك قال : ليسجنوك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : ليثبتوك يعني ليوثقوك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة قال : دخلوا دار الندوة يأتمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا يدخل عليكم أحد ليس منكم . فدخل معهم الشيطان في صورة شيخ من أهل نجد فتشاوروا فقال رجل منهم أرى أن تركبوه بعيرا ثم تخرجوه فقال الشيطان : بئسما رأى هذا هو قد كاد أن [ ص: 100 ] يفسد فيما بينكم وهو بين أظهركم، فكيف إذا أخرجتموه فأفسد الناس، ثم حملهم عليكم يقاتلونكم؟! قالوا : نعم ما رأى هذا الشيخ، فقال قائل آخر : فإني أرى أن تجعلوه في بيت وتطينوا عليه بابه وتدعوه فيه حتى يموت . فقال الشيطان : بئسما رأى هذا، فترى قومه يتركونه فيه؟! لا بد أن يغضبوا له فيخرجوه . فقال أبو جهل : فإني أرى أن تخرجوا من كل قبيلة رجلا، ثم يأخذوا أسيافهم فيضربونه ضربة واحدة فلا يدرى من قتله فتدونه فقال الشيطان نعم ما رأى هذا . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فخرج هو وأبو بكر إلى غار في جبل يقال له : ثور وقام علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وباتوا يحرسونه يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فإذا هم بعلي، فقالوا : أين صاحبك؟ فقال : لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الغار ثم رجعوا ومكث فيه هو وأبو بكر ثلاث ليال .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة ، أن قريشا اجتمعت في بيت وقالوا : لا يدخل معكم اليوم إلا من هو منكم فجاء إبليس فقالوا له : من أنت؟ قال : شيخ من أهل نجد وأنا ابن أختكم، فقالوا : ابن أخت القوم منهم [ ص: 101 ] فقال بعضهم : أوثقوه، فقال : أيرضى بنو هاشم بذلك؟ فقال بعضهم : أخرجوه، فقال : يؤويه غيركم، فقال أبو جهل : ليجتمع من كل بني أب رجل فيقتلوه، فقال إبليس : هذا الأمر الذي قال الفتى، فأنزل الله هذه الآية : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك قال : كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس ما قال : شرى علي نفسه ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل علي يتضور فإذا هو علي فقالوا : إنك للئيم إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور، ولقد استنكرناه منك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 102 ] وأخرج الحاكم عن علي بن الحسين قال : إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي وقال في ذلك :

                                                                                                                                                                                                                                      وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر     رسول الإله خاف أن يمكروا به
                                                                                                                                                                                                                                      فنجاه ذو الطول الإله من المكر     وبات رسول الله في الغار آمنا
                                                                                                                                                                                                                                      موقى وفي حفظ الإله وفي ستر     وبت أراعيهم وما يتهمونني
                                                                                                                                                                                                                                      وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية