الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 2 ] قال رحمه الله ) وإذا أوصى لرجل بغلة بستانه ولآخر برقبته ، وهو ثلث ماله فالرقبة لصاحب الرقبة والغلة لصاحب الغلة ما بقي ; لأن الوصية بالغلة في البستان كالوصية بالخدمة في العبد والسكنى في الدار وقد بينا هناك أن يقدم حق صاحب الخدمة والسكنى على حق صاحب الرقبة وإن لكل واحد منهما ما أوصى له به فهذا مثله وكذلك إن قال : ثمرته لفلان ، ثم مات ولا ثمرة فيه فالحاصل أن الوصية بالغلة تنصرف إلى الموجود ، وإلى ما يحدث سواء قال : أبدا أو لم يقل ; لأن اسم الغلة حقيقة للموجود والحادث جميعا فأما الثمرة اسم للموجود حقيقة ولم يتناول الحادث إلا مجازا فإذا أوصى له بثمرة بستانه ولم يقل أبدا ، فإن كان في البستان ثمرة حين يموت الموصي فإنما يستحق الموصى له تلك الثمرة ولا حق له فيما يحدث بعد ذلك ; لأن اللفظ إذا صار مستعملا في حقيقته ينتفي المجاز عنه ، وإذا لم يكن في البستان ثمرة عند موت الموصي فلم يستعمل اللفظ في حقيقته فيجب استعماله في المجاز ، ويكون له ما يحدث من الثمار ما عاش بمنزلة الغلة ، فإن كان قال : أبدا فله الموجود والحادث أبدا جميعا في الفصلين ; لأنه في التنصيص على التأبيد عم الإيجاب الحادث والموجود والسقي والخراج ، وما يصلحه وعلاج ما يصلحه على صاحب الغلة ; لأنه هو المنتفع بالبستان .

ولو أوصى له بصوف غنمه أو بألبانها أو بسمنها أو بأولادها أبدا لم يجز إلا ما على ظهورها من الصوف ، وما في ضروعها من اللبن ومن السمن الذي في اللبن الذي في الضرع ومن الولد الذي في البطن يوم يموت الموصي وما حدث بعد ذلك فلا وصية له فيه ، وهذا والغلة والثمرة في القياس سواء ، ولكني أدعي القياس فيه ، واستحسن ذلك قيل مراده إن القياس في الثمرة والغلة أن لا يستحق إلا الموجود فيه [ ص: 3 ] عند موته كما في الأولاد ; لأنه إنما يملك بالوصية ما هو مملوك للموصي والعين الحادث بعد موته لا تكون مملوكة له فلا يستحقها الموصى له ، ولكنه استحسن فقال : الثمار التي تحدث يجوز أن تستحق بإيجابه بعقد من العقود كالمعاوضة على قول من يجيزها فكذلك يجوز استحقاقها بالوصية عند التنصيص على التأبيد ; لأن الوصية أوسع العقود جوازا بخلاف ما في البطن ، فإن مما يحدث ما ليس بموجود في الحال لا يجوز استحقاقه بشيء من العقود ، والوصية نوع من العقود ، وقيل بل مراده أن القياس في مسألة الصوف واللبن والولد أن يستحق الموجود والحادث عند التنصيص على التأبيد ; لأن المحل الذي يحدث منه هذه الزوائد يجعل مبقى على ملك الميت حكما لاشتغاله بوصيته والوصية فيما يحدث منها تصير كالمضاف إلى حالة الحدوث فيصح ذلك كما في الثمار ، ولكنه استحسن فقال : ما في بطون الحيوان ليس وسع البشر إيجاد ما ليس بموجود منه فلا يصح إيجابه للغير بشيء من المعقود بخلاف الثمار فإن لصنع العباد تأثيرا في إيجاده ; ولهذا جاز عقد المعاوضة ، وهو شركة في الخارج فيصح إيجاب الوصية فيما يحدث منه عند التنصيص على التأبيد والدليل على الفرق أنه لو أوصى بيد عبده لإنسان أو لرجل حياته لا تصح الوصية .

ولو أوصى بقوائم الخلاف أو سعف النخل صحت الوصية فكان الفرق هذا أن سعف النخل ، وإن كان وصفا للنخل فإنه يحتمل التمليك ببعض العقود بخلاف أطراف الحيوان فإذا ظهر هذا الفرق فيما هو موجود منهما فكذلك فيما يحدث ، وكذلك لو أوصى له بولد جاريته أبدا فإنه لا يستحق إلا الموجود في البطن عند موته حتى إذا ولدت لأقل من ستة أشهر بعد موته فهو له من الثلث ، وإذا ولدته لأكثر من ستة أشهر لم يكن للموصى له فيه حق ولا فيما بعده ; لأنه لا يتيقن بوجوده عند الموت وفي الوصية بالثمرة إذا استحق الحادث ، ثم مات الموصى له ، فإن مات قبل أن تحدث الثمرة بطلت وصيته ; لأن الثابت له حق الاستحقاق وذلك لا يورث عنه .

وإن كان موته بعد ما أثمر البستان فتلك الثمرة لورثته ; لأن تلك العين صارت مملوكة له فيخلفه وارثه فيها ( ألا ترى ) أنه لو كان باعه في حياته وأخذ ثمنه جاز بيعه ، وكان الثمن لورثته بعد موته ، وإذا أوصى بغلة نخله أبدا لرجل ولآخر برقبتها ولم يدرك ولم تحمل فالنفقة في سقيها والقيام عليها على صاحب الرقبة ; لأن بهذه النفقة ينمو ملكه ولا ينتفع صاحب الغلة بذلك فليس عليه شيء من هذه النفقة فإذا أثمرت فالنفقة على صاحب الغلة ; لأن منفعة ذلك ترجع إليه فإن الثمرة به تحصل ، فإن حملت عاما ، ثم أحالت فلم تحمل شيئا فالنفقة على صاحب الغلة ; لأن منفعة ذلك [ ص: 4 ] لصاحب الغلة فالأشجار التي من عادتها أن تحمل في سنة ولا تحمل في سنة يكون ثمارها في السنة التي تحمل فيها وجود وأكثر منها إذا كانت تحمل في كل عام ، وهو نظير نفقة الموصى بخدمته فإنه على الموصى له بالخدمة بالليل والنهار جميعا ، وإن كان هو ينام بالليل ولا يخدم ; لأنه إذا استراح بالنوم بالليل كان أقوى على الخدمة بالنهار ، فإن لم يفعل وأنفق صاحب الرقبة عليها حتى تحمل فإنه يستوفي نفقته من ذلك ; لأنه كان محتاجا إلى الإنفاق لكي لا يتلف ملكه فلا يكون متبرعا فيه ، لكنه يستوفي النفقة من الثمار وما يبقى من ذلك فهو لصاحب الغلة .

ولو أوصى لرجل بثلث غلة بستانه أبدا ولا مال له غيره فقاسمهم البستان فأغل أحد النصيبين ولم يغل الآخر فإنهم يشتركون فيما خرج من الغلة ; لأن القسمة في ذلك باطلة فإن الموصى له بالغلة لا يملك شيئا من رقبة البستان والقسمة لتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر ، وذلك لا يتحقق هاهنا فتبطل القسمة ، وما حصل من الغلة يكون مشتركا بينهم بالحصة ، وللورثة أن يبيعوا ثلثي البستان ; لأنه لا حق للموصى له بثلث الغلة في ثلثي البستان ، فإذا نفذ بيعهم قام المشتري مقامهم فيكون شريك صاحب الغلة .

ولو أوصى بغلة بستانه الذي فيه لرجل وأوصى بغلته أبدا له أيضا ، ثم مات الموصي ولا مال له غيره وفي البستان غلة تساوي مائة والبستان يساوي ثلثمائة فللموصى له ثلث الغلة التي فيه وثلث ما يخرج من الغلة فيما يستقبل أبدا ; لأن الوصية تنفذ من الثلث وطريق تنفيذها من الثلث هو أن يعطي ثلث الغلة الموجودة وثلثاها للورثة ، ثم يصير كأنه أوصى له بغلته ، وليس فيه غلة فيكون له ثلث ما يحدث من الغلة أبدا .

ولو أوصى بعشرين درهما من غلته كل سنة لرجل فأغل سنة قليلا وسنة كثيرا فله ثلث الغلة كل سنة يحبس وينفق عليه كل سنة من ذلك عشرون درهما ما عاش هكذا أوجبه الموصي ، وربما لا تحصل الغلة في بعض السنين ; فلهذا يحبس ثلث الغلة على حقه ، وكذا لو أوصى بأن ينفق عليه خمسة دراهم كل شهر من ماله فإنه يحبس جميع الثلث لينفق عليه منه كل شهر خمسة كما أوجبه الموصي ، وعن أبي يوسف أنه قال : يحبس مقدار ما ينفق عليه في مدة يتوهم أن يعيش إليها في العادة فأما ما زاد على ذلك فلا يشتغل بحبسه ; لأن الظاهر أنه يموت قبل ذلك ، وشرط استحقاقه بقاؤه حيا فإنما يثبت هذا الشرط بطريق الظاهر لما تعذر الوقوف على حقيقته فأما في ظاهر الرواية قال : يتوهم أن تطول حياته إلى أن ينفق عليه جميع الثلث أو يهلك بعض الثلث قبل أن ينفق فيحتاج إلى ما بقي منه للإنفاق عليه ; فلهذا يحبس جميع الثلث ، ويستوي إن أمر بأن ينفق عليه في كل شهر منه [ ص: 5 ] درهما أو عشرة دراهم .

ولو أوصى أن ينفق عليه كل شهر أربعة من ماله ، وعلى آخر كل شهر خمسة من غلة البستان ، ولا مال له غير البستان فثلث البستان بينهما نصفان لاستواء حقهما فيه .

( ألا ترى ) أن كل واحد منهما لو انفرد استحق جميع الثلث بوصيته ، ثم يباع سدس غلة البستان لكل واحد منهما فيتوقف ثمنه على يد الموصي أو على يد ثقة إن لم يكن له وصي وينفق على كل واحد منهما من نصيبه ما سمي له في كل شهر ، فإن ماتا جميعا ، وقد بقي من ذلك شيء رد على ورثة الموصي لبطلان وصيته بالموت ، وكذلك لو قال : ينفق على فلان أربعة وعلى فلان وفلان خمسة حبس السدس على المنفرد والسدس الآخر على المجموعين في النفقة ; لأنهما كشخص واحد فيما أوجب لهما .

ولو أوصى بغلة بستانه لرجل وبنصف غلته لآخر ، وهو جميع ماله قسم ثلث الغلة بينهما نصفين عند أبي حنيفة في كل سنة ; لأن وصية كل واحد منهما فيما زاد على الثلث تبطل ضربا واستحقاقا ، فإن كان البستان يخرج من ثلثه كان لصاحب الجميع ثلاثة أرباع غلته كل سنة وللآخر ربعها ، القسمة على طريق المنازعة كما هو مذهبه وعندهما القسمة على طريق العول ، فإن لم يكن له مال سواه فثلثه بينهما أثلاثا ، وإن كان يخرج من ثلثه فالكل بينهما أثلاثا على أن يضرب صاحب الجميع بالجميع والآخر بالنصف .

ولو أوصى لرجل بغلة بستانه وقيمته ألف ، ولآخر بغلة عبده وقيمته خمسمائة وله سوى ذلك ثلثمائة فالثلث بينهما على أحد عشر سهما في قول أبي حنيفة ; لأن جميع ماله ألف وثمانمائة فثلثه ستمائة والموصى له بغلة البستان تبطل وصيته فيما زاد على الثلث ضربا واستحقاقا فإنما يضرب هو بستمائة والآخر بخمسمائة وقيمة العبد فإذا جعلت كل مائة سهما كان الثلث على أحد عشر سهما بينهما لصاحب العبد خمسة أسهم في العبد ولصاحب البستان ستة في غلته .

ولو أوصى لرجل بغلة أرضه وليس فيها نخل ولا شجر ولا مال له غيرها فإنها تؤاجر فيكون له ثلث الغلة ، وإن كان فيه شجر أعطي ثلث ما يخرج منها ; لأنه يستحق بمطلق التسمية في كل موضع ما يتناوله الاسم عرفا ، وإذا أوصى أن تؤاجر أرضه من رجل سنين مسماة كل سنة بكذا ولا مال له غيرها ، فإن كان سمى أجرة مثلها جاز له .

وإن كان أقل منه حسب ذلك من الثلث ; لأن المحاباة في الأجرة بمنزلة المحاباة في الثمن فيكون من ثلثه ، وهذا ; لأن المنفعة تأخذ حكم المالية بالعقد بدليل أنه لو أجر أرضه ولم يسم الأجر كان له أجر مثل ما استوفى المستأجر من المنفعة كما في البيع إذا لم يذكر الثمن .

ولو أوصى لرجل بغلة أرضه ولآخر برقبتها ، وهي تخرج من [ ص: 6 ] الثلث فباعها صاحب - الرقبة وسلم صاحب الغلة البيع جاز وبطلت وصيته ولا حق له في الثمن ; لأن الملك لصاحب الرقبة وحق صاحب الغلة في المنفعة فإجازته البيع تكون إبطالا لحقه في المنفعة ويسلم الثمن لصاحب الرقبة كما لو باع الآخر العين المستأجرة ورضي به المستأجر .

ولو أوصى له بغلة بستانه فأغل البستان سنين قبل موت الموصي ، ثم مات الموصي لم يكن للموصى له من تلك الغلة شيء إلا ما يكون في البستان حين يموت أو يحدث بعد ذلك ; لأن وجوب الوصية بالموت ، وإنما يضاف إلى البستان من الغلة عند الموت ما يكون موجودا فيه أو ما يحدث بعد ذلك ، فإن اشترى الموصى له البستان من الورثة بعد موته جاز الشراء ، وبطلت وصيته كما لو باعوه من غيره برضاه وكذلك لو أعطوه شيئا على أن للقن من الغلة فكذلك جائز ; لأنه أسقط حقه بما استوفى منهم من العوض .

ولو أسقط حقه بغير عوض جاز فذلك بالعوض وكذلك في سكنى الدار وخدمة العبد إذا صالحوه منه على شيء معلوم فهو جائز ; لأنه أسقط حقه بعوض ، وإسقاط الحق عن المنفعة يجوز بالعوض وغير العوض ، وإن كان لا يحتمل التمليك بعوض إذا ملكه أو بغير عوض على ما سبق بيانه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية